البذرة الطائرة
يحدد إدغار (آلان بو) الشعر؛ على أنه الخلق الإيقاعي للجمال، وإن حكمه الوحيد هو الذوق، ولا علاقة له بالعقل أو الوعي، إلا بصورة جانبية، وهو لا يهتم إطلاقاً بالواجب أو الحقيقة اللهمّ إلا مصادفة.
(بو) الذي يصفه جون دوغلاس سيلي استاذ فقه الأدب واللغة في جامعة كاليفورنيا بالبذرة الطائرة التي لم تعرف لها مستقراَ، فقد قضى حياته هائماَ لا تستقر له حال رغم الجمال الشعري الذي سعى إليه، و(بو) المولود في بوسطن عام 1809 الإنكليزي الأصل، كان فقد أبويه في أقل من ثلاث سنوات، فجرى تبنيه من قبل عائلة “أل ألن” حيث كانت تربيته صارمة مشحونة بتناقض العواطف المتراوحة بين أشد العقوبات الجسدية والحنان البسيط، حياة من السوداوية والتنقل والقصاص أدت إلى هروبه من البيت والتحاقه بالجيش، وقيامه بأعمال أخرى مشابهة، كانت النتيجة، حرمان، وديون، وبؤس، وفي نظر المجتمع الأمريكي في ذلك الزمان هو لقيط، يقابل كل ذلك بمحاولات شعرية، يحاول أن يفرضها عام 1831 في نيويورك، ومصمماَ على احتراف الأدب، فأصدر “قصائد” حيث فشل شعره الفاتر حينذاك، وقد أعمل فيه الفكر كثيراَ، بعكس ما وصّف، ومن ثمّ لم يلفت إليه انتباه أحد، فلم يباع الديوان، ولم يلاقِ الانتشار الذي كان يحلم به، فعاد إلى البؤس والسُكر والضياع، ومحاولات الإنتحار التي أقدم عليها ثلاث مرات، مع فقدان الوعي والخوض في الهذيان والارتعاش، إلى أن مات عام 1849.
ومن الكلمات الأخيرة التي وصف بها حياته: “أفضل صديق لي ذلك الذي يجهز عليّ بطلقٍ ناري، عندما أفكر كم أنا تعس عندما أتأمل انحطاطي وخرابي، عندما أفكر كم تألمت وفقدت، وبالهمِّ والبؤس اللذين سببتهما لأحبائي، أودُّ لو اختفي في قاع الهاوية، منبوذاَ من الله والناس كحثالة المجتمع، يا إلهي، أي وضع رهيب، أليس من فدية للروح الخالدة ؟”
وخير تعبير عن حياته وشخصيته الأدبية؛ ما كتبته الناقدة جوزفين بيلادان مضيئة به الوضع الغريب لـ(بو): في بيئة الوحوش المفترسة تلك كابد إدغار آلان بو استشهاده الكبير، عاش وعمل في الزاوية الوحيدة من العالم، حيث لا ماض أبداَ، وحيث لا مكان للتأمل العقلاني، مزاج عصبي وسط أناس دمويين، طبيعة عاطفية ما بين واقعين، روح مرهفة وفنانة تصطدم بمجتمع قطاع الطرق لا تراتب فيه “لقد بدا كما لو حلت عليه اللعنة في أمريكا” كالنقيصة الأكثر عنفاَ للفرد حيال المحيط، وثمة أراء أشدّ قسوة لكل من مالارميه وشارل بودلير، ومع أن (بو) نفسه يقول: الشعر ليس هدفاَ لي، بل هوى.
لقد لاحقت (بو) إرادة قول كل شيء، فالمجتمع الأمريكي بقي على بربريته يتجاهله: فقط يتابع ذلك الإعجاب والدهشة التي أثارها شعره وأدبه في العالم، وخاصة في فرنسا، وهنا نذكر من أعماله الشعرية: “الغراب، الأعراف، مقاطع لهيلانة النائمة، والقصر المسكون”، وفي القصة، له عدد من الأعمال القصصية، منها: “القط الأسود”، كما عثر على مخطوط “الخنفساء الذهبية” في قارورة..
جمالك هيلانة بالنسبة لي؛
شبيهٌ بالمراكب المنسية للزمن الغابر
التي كانت تقلُّ بهدوء
فوق البحر المعطر،
المسافر المرهق والمنكسر
نحو شطآن ولادته..”