بما أنّ التقدم بالعمر هو وراء ارتجاع الذكريات القديمة كثيراً، فيا من تراني أقصّ على أولادي حكايا عن بيت جدي الريفي, ومشاجراتي مع أخوالي القريبين من عمري, وشيئاً من حنيني لحارة أهلي الدمشقية, وطريق مدرستي الطويل، حتى بين أصدقائي يا من تراني أستحضر عنتريات مهنية سابقة تجرأت يوماً, وحرّرت بعض العناوين المشاكسة المحفوظة في ذاكرتي.
المهم، وراء هذه الديباجة الشجاعة – فيما لو كان الاعتراف بالتقدم في العمر فضيلة – استحضار لوحتين قديمتين حاضرتين جداً في مخيلتي حدّ حفظ ما هو أبعد من الزمان والمكان ألا وهو درجة حرارة الطقس آنذاك, ولا أعلم إن كان تفسير تخليد الحادثتين يعود لسبب عضوي أو لعامل نفسي إلا أن ما أعرفه أنني تعلمت من كلتا الحادثتين شيئاً ما.
في المرة الأولى يوم كنت طالبة ابتدائي ألبس «المريول الخاكي والفولار والطاقية», وفي أحد اجتماعاتنا الطلائعية التي كنا نحضرها بعد الانتهاء من الدروس, وخارج الحصص المدرسية، في هذا الاجتماع كنّا قد شكلنا بأجسادنا شكل المستطيل المفتوح, وتوسطت المعلمة الضلع الفارغ, وصارت تسألنا في نهاية الاجتماع ما هو الجواب المناسب لكلمة شكراً؟.
جميعنا جاوبنا الجواب البدهي والسريع ما تحتاجه «شكراً: عفواً» إلا أنّ حواجب المعلمة كانت تنفي ذلك وعبثاً حاولنا استئثار أحدنا بالصفقة الطليعية لكن إخفاقنا تشفّع له انتهاء وقت الحصة الطليعية, وجاء الجواب مباغتاً لتوقعاتنا «لا شكر على واجب» هذا الجواب البسيط ماثله حوار شبيه في الإعدادية يوم كان للتدبير المنزلي كذلك حصة تدريسية, وجاءتنا ذات حصة موجهة تربوية ورغم الاستعداد الكبير لتبييض وجه المعلمة إلا أننا فشلنا فشلاً ذريعاً أمام سؤال سهل من قبيل لماذا يفضل استخدام الملعقة الخشبية في الطبخ؟,
ليكون الجواب: لأن الخشب غير ناقل للحرارة.
ما يهم في كلتا القصتين ليس الجدل حول احتمالية الإخفاق اللا متوقع, وإنّما حول أسلوب التربية غير المباشر الذي كانت تنتهجه مدارسنا في مرحلة عمرية مهمة حفرت في ذاكرتي معلومات ثقافية بسيطة, (علّواه) لو نستطيع اليوم استثمار المساحات التعليمية والإعلامية والأنشطة الرياضية والمسرحية, وحتى دور العبادة لتلقين أطفالنا دروساً لا تنسى بشرح معاني كلمات: «الحب والإيثار والولاء والعرفان» لأن الوطن يحتاج في قادم الأيام مخزون ذاكرة شبابنا الطفولية للنهوض بسورية.