سد “النهضة”

لم يسبق لمصر في تاريخها الحديث أن كانت أمام تحدٍ وجودي كما هو حالها اليوم، فالاحتلال أياً تكن الكوارث التي يخلفها مصيره الزوال ومن الممكن ترميم التركة، والنكسة أياً يكن حجمها يمكن أن تزول آثارها بتضافر الجهود، حتى الوقوع في “القيد” هو أمر يمكن الخلاص منه، وفي النهاية ستقول الأجيال القادمة كلمتها فيه، لكن كيف يمكن التعامل مع حالة إلغاء النهر الذي كانت مصر هبته التاريخية؟

نظمت السفارة الإثيوبية في “إسرائيل” -وللمكان أهميته التي لا تعطيها أياً من السفارات الإثيوبية المنتشرة في عواصم العالم- يوم 20 من شهر كانون الثاني الماضي ندوة بعنوان “التقسيم المتساوي لمياه النيل”، فيما سجلّ الحضور، بعد المكان، يوحي بالأهداف التي رمت إليها تلك الندوة، والتي كانت أشبه برسالة يراد إيصالها إلى غرف صناعة القرار في القاهرة، فالحاضرون هم سفراء إثيوبيا وغانا وجنوب السودان، أما المحاضرون فهم في جلهم إسرائيليون ممن يمثلون الرديف الاستشاري الذي تقع على عاتقه عادة تقديم صورة شافية عن جذور الصراعات، والنتائج التي يمكن أن توصل إليها، ثم كيف يمكن إدارة الدفة للتحكم في توجهاتها لكي تكون خادمة في سياقات المرامي والأهداف البعيدة.

كان أبرز المتحدثين “حجاي إيلرخ” الأستاذ المتخصص بالشؤون الإفريقية بجامعة تل أبيب، وما قاله كاف لرسم بانوراما للمشهد الذي ينتظر مصر على امتداد العقود القادمة، ولربما لقرون أيضاً، ما لم تتغير موازين القوى القائمة في ما بين أطراف الصراع، ومن الممكن اختصار الأهم مما جاء على لسان إيلرخ بالآتي:

– “سد النهضة هو زلزال مدمر ضرب مصر، وعقل المصريين لا يستوعب بعد أن مرحلة جديدة من التاريخ تبدأ الآن بوجود سد النهضة”.

– “المصريون اعتمدوا طوال تاريخهم على نهر النيل في حياتهم الاقتصادية، وهذا لن يكون ممكناً في المستقبل”.

– “سنرى قريباً بحيرة السد العالي وهي تفرغ من المياه خلال سنوات قليلة، ولن تتولد كهرباء عندها من السد الذي سيصبح أداة تحكم في النيل”.

– “مهما طالت المفاوضات فهي لا تعني الكثير، فالسد موجود، وسيتم الملء، وستتحكم إثيوبيا بمياه النيل، والمؤكد هو أن السد يمثل مشروع الثورة الحضارية الحالية في إثيوبيا، كما كان السد العالي هو مشروع الثورة الحضارية في مصر خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي”.

انتهى الاستشهاد بكلام إيلرخ الذي أطلنا فيه لخطورته، ولرسم صورة متكاملة يمكن لأقوال هذا الأخير أن تتم تراسيمها بل تكفي لتخيل حتى الإطار الذي ستعلق فيه على الجدار.

ما يمكن استشرافه مما سبق هو أن معاهدة “كامب ديفيد” 1979 التي ضمنت عزل مصر عن محيطها لإفقادها أكبر مصادر قوتها، فمصر دولة دور وليست دولة موارد، تلك المعاهدة لم تكن سوى خطوة أولى في مشروع كبير يهدف إلى تحطيم عوامل القوة المصرية بغية إنهاء تهديدها المحتمل للوجود الإسرائيلي مرة واحدة وإلى الأبد، فالمؤكد هو أن راسمي السياسات البعيدة في كيان الاحتلال الصهيوني يبدون غير مطمئنين لدوام حال المعاهدة المذكورة، والشكوك لديهم قائمة بالتأكيد حول إمكان اكتسابها صفة الديمومة.

تحطيم عوامل القوة المصرية الداخلية، بعد إفقاد القاهرة دورها في محيطها الذي كان يضعها في موقع حاجة الغرب لها، يتضمن الآن ذهاب مصر إلى تحلية مياه البحر بكلف باهظة، والأهم هو أن يكون ذلك المشروع بمساعدة إسرائيلية وتمويل بقروض البنك الدولي ما يعيدها إلى مرحلة “الخديوية” التي أغرقت البلاد بالديون وقادت بالضرورة إلى وضعها تحت الوصاية.

مصر أمام مفترق مصيري، والخيارات فيه تبدو ضيقة، لكن أبرزها هو عودتها إلى دورها التاريخي في محيطها ما يفقد المتربصين فرصة الإمساك بدفة سفينتها لتوجيهها كيفما شاء هؤلاء.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار