“الأنا” المنفوخة
تحتل “أنا” موقعها في بداية الكلام، وتتباهى بكونها “ضمير رفع منفصل في محل رفع مبتدأ”، وعلى هذا نادراً ما نلتقي بها في نهاية جملة ما، فكيف حين تأتي “مُفخّمة” على مبدأ “أنا من ابتكر الفن الفلاني في سورية”، و”أنا من أسس النظرية المشهورة”، و”أنا الأفضل والأول ووو …”، والحقيقة أنّ هذه المتلازمة استباحت تصريحات العديد من الفنانين والأدباء والإعلاميين، وكل من أتاحت له طبيعة عمله، عدداً من المتابعين والمهتمين، وهؤلاء بطبيعة الحال ليسوا أكثر من مادحين ومصفقين، يدورون في فلك الشخصية ولا يعنيهم نتاجها فعليّاً، وإلا لفكروا قليلاً قبل كتابة تعليقات على مبدأ “خرافي وصاعق ومبهر”، وأعادوا النظر في كمّ المجاملات الصادر عنهم مجاناً “للقامات” التي يصفونها بالمُذهلة والمُبتكرة وصاحبة الفضل على أجيال من السابقين واللاحقين !.
ولا ينتهي فعل “الأنا” هنا، فعدا عن سهولة الادعاء بالتميّز والفرادة بغض النظر عن القيمة الحقيقية لأي عمل، يسهل القول إنّ الدافع لأي جهد أو بحث عند أصحاب الضمائر المنفصلة، لا يتجاوز كونه بحثاً عن أمجاد شخصية، ومشاعر بالتفوق والاستعلاء على أفكار الآخرين، كآرائهم ونتاجهم في أيّ ميدان كان، فينسبون لذواتهم إنجازات وهمية، يرونها مبتورة وخارجة عن أي سياق أو تطور، ويتنكرون لكل من سبقهم في الزمن والجهد، ويتناسون أيضاً أبناء جيلهم، ممن أهملهم الإعلام أو فضلوا النأي بأنفسهم عن أساليب لفت النظر واستجداء الاهتمام.
والمفارقة عند مرضى “الأنا”، احتياجهم الدائم لهالة من المحيطين والتابعين، رغم إعلانهم المستمر أحقيتهم الطبيعية في الفوز، وإن كانت عوالم الأدب والفنون لا تحتمل فكرة الفائز الأول والثاني والثالث، فلكل تجربة تقييمها وفقاً لموقعها وأثرها، وهذا لا يتأتى من عبارات الإعجاب المكررة، ولا حتى من الثناءات والامتيازات الفارغة الممنوحة في صفحات الشعر والقصة كالسكاكر التي يُخبئها الكبار في جيوبهم للصغار.
أمّا ما نعرفه جميعاً، فهو الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام، ولا سيما التلفزيون، في نفخ بوالين “الأنا” في الإضاءة على من لا يستحق، بداعي الاستسهال أو عدم توافر البديل، تاركة للـ “السوشل ميديا” توجيهها، في الترويج للفارغين ومدّعي الفهم، متناسية أن الجمهور الإلكتروني ربما يكون حصيلة الأصدقاء وأبناء العمات والخالات، ثم إن الفرق كبير بين ما ينشره أي إنسان عن نفسه، وما تنشره وسائل الإعلام.