من عادات البعض تجديد عهود الحب في المكان الذي شهد اللقاء الأول، أو حيث تمت مراسم الزواج، أو عند الشجرة التي حفر عليها الحبيبان أحرف اسميهما الأولى، أو في غرفة الفندق ليلة العرس، ولأنني من أولئك البعض، كان يُضاعِف حُزني على ما آلت إليه أوضاع حلب، مُجرَّدَ فكرة أنني ما عدت قادراً على زيارة «فندق التراث» في منطقة «الجديدة»، وتكحيل ناظريَّ بجدران تلك الغرفة الأثيرة، وسقفِها المُزَيَّن بأشعار امرئ القيس وألوان العجمي البهية، بعدما أحاله برابرة العصر الحديث إلى خراب، وكان يزيد مأساتي حينها أنني لن أستطيع مجدداً قطع المسافة مشياً بين «ملك الحلويات» في «السليمانية» باتجاه منزل الخالة «أم جوزيف» رحمها الله في «التلفون الهوائي»، ومنه إلى «عوجة الجب»، فكنيسة «مار جرجس» والدير القابع تحتها، بحجارته المائلة إلى اللون البرتقالي، وأيقوناته الأثرية، والأب «يوحنا جاموس» بكامل بهاء محبَّته وابتسامته العصية على النسيان.
وكلَّما كنت أسمع عن دمارٍ أَلَمَّ بحلب كانت روحي تنزف، فلي فيها الكثير مما يُعْشَق: «مامونيّة» الصباح، و«زلابية» بعد الظهر، وقدودٌ تملأ الأماسي بأشعارٍ حسيّة على قَدِّ موسيقا دينية، ولي خالتان من رُتبةِ القمر، وأصدقاء كانوا شماليَ المغناطيسي حين أتوه، ولي قلعةٌ، ومقاهٍ ثقافية، ومزاراتُ قداسةٍ، ولي أشعارُ السُّهروردي والمتنبي، وكتابات الكواكبي وموسوعة الأسدي ومسرحيات الأصدقاء، ولي «أبو عبدو» الفوَّال الذي يُصلِّح دائماً في «ساحة الحطب» صَحْنِي ومَزاجي، ولي زعترُ حلبَ وغارُها، و«التّلل» و«سوق المدينة» الذي أحرق قلبي، ولي «سقسوقة» الجبنة وكوكتيل «النادي الأولمبي» وشراب اللوز، ولي الحديقة العامة، وساحة الجابري، ومحطة القطار، ونادي الاتحاد، ولي الكثير الكثير، وأهم من ذلك كلِّه، لي عينا حبيبي الخضراوان اللتان، برغم كل الأحزان وسني العذاب والغياب القسري عن شهبائي، تدفعانني لأن أُتمِّمَ عهود حبِّي، وأعيدَ البارحةَ المسلوبَ منّي إليّ.