«ملف تشرين».. أسعد فضة ملك الفانتازيا وعاشق المسرح: لم أغادر سورية لأعود إليها.. أينما ذهبت سورية في قلبي
تشرين – بارعة جمعة:
“مهما حققتم النجومية في التلفزيون والسينما، لا تتخلوا عن المسرح”.. من هنا تبدو لنا للوهلة الأولى حقيقة الفن في نظر من كان أكثر الفنانين رؤية وبصيرة بقوة الفنان وشروط استمراريته، دعوة أم وصية.. لن يختلف الأمر بين الحالتين أمام عظمة فنان ولد ليكون قدوة لمن تابعه وعمل أيضاً، والذي عاصر أجيالاً راسماً في مخيلتها صورة الفنان المهذب صاحب المبدأ وقائد رأي في مجتمعه، كلمات لن تنصف مسيرة الفنان أسعد فضة، لامتلائها بالكثير مما لم يستطع البقية الخوض فيه أو معاصرته، ليغدو ابن المسرح والتلفزيون والسينما، والكاتب المعطاء الناقد لنفسه أيضاً، والإداري الناجح بين أقرانه، ممن شهدوا مرحلة الستينيات.
جيل المؤسسين
من مؤسسي الدراما السورية وأهم مسرحييها، ممن نهضوا به، وعملوا على ديمومته، آخذاً من السينما خطوة مختلفة، فغدا النجم المحبوب بلا منازع، بأدواره المتنوعة المختلفة والجدلية أحياناً، إلا أن لقب “ملك الفانتازيا” كان الأقدر على جعله الأكثر إبهاراً بها، إلى جانب احترافيته بأدوار البيئة الشامية، رغم بعده عنها، فكان لشخصياته وقع خاص في ذاكرة المشاهد.
بصمة خاصة
حجزت الشخصيات التي لعبها مكاناً متميزاً بذاكرة المشاهد، وهي حالة أكدتها شخصية “أبو دبّاك” في مسلسل “هجرة القلوب الى القلوب“، التي حجزت مكانة مهمة في ذهن المشاهد، وباتت متداولة من حيث التسمية بين الكثير ممن يمثلونها على أرض الواقع، من هنا استأثر فضة بالكثير من الجوائز التي كان آخرها منح وزارة الثقافة جائزة الدولة التقديرية في مجال الفنون للفنان أسعد فضة، كلُّ ذلك يعود بالطبع إلى دراسة أدواره بدقة ومن ثم تجسيدها باحترافية عالية وهدوء واتزان، وهو ما تفتقده الكثير من أعمال الدراما السورية اليوم، التي لم تؤثر بذاكرة الجمهور، والأسباب كثيرة، أبرزها الاشتغال السريع بها من دون الاستناد إلى قواعد درامية صحيحة، وعدم إدراك البعض أن للدراما خصائص يجب اتباعها أيضاً.
هذه الاعتبارات لم تمر من دون تقييم الجمهور، رؤية أكدها الفنان أسعد فضة في لقاءاتٍ عدة له، باعتبار أن الفن مسؤولية مجتمعية مهمة ونبيلة، كما أن شخصية الفنان يجب أن تميل لتحقيق التكامل أمام ثورة الاتصالات والتكنولوجيا والمنصّات الدرامية، ما يفرض عليه دراسة الشخصية بتمعن والبحث بأبعادها وأعماقها، كي يصبح حضور الفنان السوري مؤثراً، ومن ثم قائد رأي كما هي حال الفنانين في دول أخرى.
فانتازيا درامية
حملت معها شهرة واسعة له، فكان “ابن الوهّاج” شعلة مضيئة في مسيرة الفنان أسعد فضة في تسعينيات القرن الماضي، لتبدو هذه المرحلة مساهمة حقيقية وفاعلة بالدراما، اغتنم منها أساليب فنية متطورة جذبت المشاهد السوري والعربي له.
وفي خشية منه من الانزلاق في النسيان، خاض تجربته في تدوين سيرته الفنية الذاتية على عجل، آخذاً من مقولة غابرييل غارسيا “الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، إنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه”، دافعاً قوياً للبدء بتوثيق أبرز محطات حياته الفنية في كتابه “إطلالة على الذاكرة”، حيث لن يجد القارئ الفضولي ما يبحث عنه من أسرار أو أحداث عايشها الفنان عن قرب في كواليس العمل الفني له، الذي قارب نصف قرن، فحيثيات المسرح والمناصب الإدارية التي تقلدها كانت حاضرة تفاصيلها ضمن رواية فضة، متناولاً مرحلة دراسته المسرح في مصر بعُجالة، أيام الوحدة بين سورية ومصر، ومن بعدها الانفصال وعودته إلى دمشق.
بالكاد تجد ما هو شخصي ومتعلق بالحب أو حكايات الحب في الطفولة البريئة لديه، لنجده ميالاً لتوثيق سيرة الفن السوري أكثر من سيرته الذاتية الغنية بالتحولات والأسرار أيضاً، ما دفعه لأخذ شهادات الآخرين أمثال “أدونيس” و “أيمن زيدان”، والحديث عن جوائزه التي حصدها، وملخصات بسيطة عن أعماله.
شارك الفنان أسعد فضة تجربته الغنية مع طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، عبر توصيات خاصة منه لهم بضرورة امتلاك كل طالب منهم بعد التخرج مشروعاً خاصاً به، الذي يعدُّ جزءاً من المشروع الثقافي في البلاد، فالذي يتبنى هدفاً محدداً يحقق الكثير من الأشياء الرائعة، وإلا سيمر كما مرّ الكثير قبله مرور الكرام.
قراءات في تجربة الفنان
“عرفتُ أسعد فضة عائداً من دراسته في مصر مُتهيّئاً لسفرٍ آخر، وتعميق أبعد لمعرفته المسرحية، لكنني لا أعرف ما الذي كان أكثر إشراقاً واندفاعاً، دراسته أم تطلعاته، ففي ذلك اللقاء الأول دُهشت لحماسته، وهو يُسابقُ الحلم في شوقه للبناء ودعم كل بادرة للإبداع.. فيما بعد، ومنذ أواسط السبعينيات أتيحت لنا لقاءات مُتكررة، فلمست هذا النزوع الخلاق لكي يحلّ المُتخيل الجميل محل الواقع الهزيل، ولكي يتخطّى الراهن إلى المُحتمل”.. هو بعض ما قرأ” أدونيس” بمن كان الأكثر شغلاً في المسرح السوري المعاصر منذ بدايته، ونقصد بذلك الفنان أسعد فضة، شهادة أدونيس السابقة كانت خلال تكريم مؤسس المعهد العالي للفنون المسرحية سنة 2005 وتسمية قاعة مسرح دار الأسد للثقافة في اللاذقية باسم “قاعة مسرح أسعد فضة”.
وتحت عنوان، “رأفت شركس يتحدث عن أسعد فضة والآفاق الرحبة”، تناول شركس السيرة الذاتية للفنان أسعد فضة، أحد ضيوف مهرجان الإسكندرية السينمائي وقتها، مشيراً إلى تكريم الفنان الضيف في بلاده بوضع اسمه على أحد مسارح اللاذقية، إضافة إلى نبذة عن عمله في المسرح القومي كإداري، آخذاً من حصيلة أعماله التي تجاوزت الـ60 مسلسلاً وعدداً كبيراً من التمثيليات وعشرة أفلام سينمائية وأربعين مسرحية ما بين تمثيل وإخراج، بداية لتقييم مراحل عمله الفنية.
لم يخف شركس فضوله في معرفة رأي الفنان أسعد فضة بالجانب الإداري الذي أوكل إليه على مدار سنوات عمله، لتأتي تأكيدات فضة بأنّ الرهان كان منذ البداية على نجاح مشروعه الفني، سواء في المسرح أو السينما أو التلفزيون، وهو ما حصل بالفعل والأهم برأيه، ليعاود شركس مجدداً الإشارة إلى فترات عمله في مصر، والتأثير الأكبر في الفنان هناك، ليأتي رد الفنان أسعد فضة بالحديث عن العملاق محمود مرسي، واصفاً إياه بالناسك، الشفاف والصادق إلى أبعد الحدود، وهذا إن دل على شيء فهو عمق الصدق في تعامل فضة مع من سعى إليه في تجربته الفنية، وكان مؤمناً بقدراته منذ اللحظة الأولى، وهو ما أكده فضة بسرد قصة الدور الذي أسند اليه، عندما فكّرت منظمة التحرير الفلسطينية بإنتاج مسلسل “عز الدين القسام” من قبل العملاق محمود مرسي، الذي رأى بفضة بطل العمل بقوله: “عندما ذهبوا إليه للاتفاق معه بعد أن كان قد قرأ السيناريو قال لهم أشعر بأن هناك ممثلاً يقوم بالدور أفضل لأنه ابن البيئة وهو تلميذي وأعرف إمكانياته.. إنه أسعد فضة”، حالة من الإيثار لم تغادر ذاكرة أسعد فضة، جعلت منه البطل آنذاك، فيما غدا محمود مرسي المعلم الكبير والصادق، بنظر فضة.
أقرأ أيضاً:
«ملف تشرين».. أسعد فضة.. ذاكرة ذهبية من تاريخ الدراما العربية