ميسلون وميسلون «الكبرى» وامتحان المسؤولية الوطنية المستمر.. المعركة قائمة ودائمة لتبقى سورية وطناً نستحقه

تشرين- مها سلطان:

على بُعد أسبوع واحد من احتفاء السوريين بالذكرى التاسعة والسبعين لتأسيس جيشهم، جيش البطولات والتضحيات، يحتفون اليوم الأربعاء بالذكرى الرابعة بعد المئة لمعركة ميسلون، سفر الشهادة الخالد، ومعمودية الوهب الأقصى الذي أسس لسورية الدولة والقوة والمكانة، والوحدة الوطنية.. والأهم لسورية المُسيجة بجيش يحمل راية ميسلون وروحها عقيدة.. شرف، وطن، إخلاص، على مر الخطوب والشدائد، لا يهين ولا يستكين.
ولئن كان جيشنا الباسل تأسس نظامياً في عام 1946 بعد تحقيق الاستقلال وطرد المستعمر الفرنسي، إلا أنه تاريخياً تأسس قبل ذلك بعقود على يد يوسف العظمة شهيد ميسلون، وأيقونة السوريين الذين يحتفون به كل عام كما يحتفون بميسلون كأيقونة حفرت عميقاً في وجدانهم، فآثروا أن يخلدوها كل عام ويخلدوا أيضاً قائدها وشهيدها لتبقى مثالاً حيّاً لكل جيل، يتمثلها قولاً وعملاً يُعلي به الوطن ويذود عنه بالروح، فلا يسقط ومن خلفه كل أبنائه صفاً واحداً في العمل المخلص وفي التضحية بالأرواح كلما احتاجهم الوطن.

روح ميسلون
في كل محطة تاريخية ما بعد ميسلون، من المقاومة والنضال بوجه المستعمر الفرنسي، إلى إنجاز الاستقلال، إلى بناء الدولة الحديثة، والتحديات التي واجهتها داخلياً وإقليمياً، وصولاً إلى الحرب الإرهابية على سورية بداية عام 2011 والمستمرة حتى الآن فصولاً متتالية، اقتصادياً مع الفصول العسكرية والسياسية.. في كل محطة كانت روح ميسلون حاضرة دافعة، شامخة ومستنهضة للهمم والبطولات، وفي كل محطة حمت سورية وأهلها.. وستبقى كذلك، وسيبقى السوريون على عهدهم.. وطن واحد.. نصر واحد.

حجزت معركة ميسلون مكانها تاريخياً في وجدان السوريين كمعركة بطولة وتضحية آثر أبطالها أن يدخلوا ميدانها رغم إدراكهم أنها غير متكافئة فلا يدخل المستعمر مرة أخرى أرض سورية إلا فوق أجسادهم

كان الجيش الذي شكله يوسف العظمة (في عهد أول حكومة وطنية 1918) النواة الأولى للجيش النظامي في عام 1946، وكان جيشاً حديثاً لم يكن عضده قد اشتد بعد، لكنه كان ممتلئاً بالوطن، مفعماً بالأمل والإيمان، وبالقدرة على المواجهة والدفاع.. وهكذا خاض أولى معاركه وعمّد بالدم حدود وطن قام واستقل رغماً عن أنف المحتل وعملائه ومأجوريه.

سجل السوريون معركة ميسلون في أنصع صفحات التاريخ:
أولاً: كمعركة بطولة وتضحية، آثر السوريون أن يدخلوا ميدانها رغم إدراكهم أنها غير متكافئة، فلا يدخل المستعمر مرة أخرى أرض سورية إلا فوق أجسادهم.
ثانياً: كمعركة رسمت عقيدة وطنية صلبة كانت دافعاً أساسياً لاستمرار النضال والمقاومة ضد المستعمر الفرنسي، مدعومة بنضال سياسي لرجالات سورية السياسيين في ذلك الوقت (والمعروفين برجالات الاستقلال).
ثالثاً: كمعركة أسست لسورية جديدة موحدة على هدف النضال والاستقلال، وبناء دولة حرة قوية قائمة على وعي وطني مختلف بسورية، كحضارة وموقع ومكانة ودور، وبعيداً عن ربطها بمنظومات استعمارية إقليمية أو دولية وتحت ذرائع واهية، دينية تارة وتطويرية تارة أخرى.. وبالتالي لا بد أن تقوم سورية كدولة كاملة السيادة، كاملة البناء والقوة، لتستمر ولتكون فخر أبنائها.

كانت ميسلون معركة «سابقة» تمثلها السوريون لمواجهة المؤامرة الإرهابية العالمية منذ عام 2011 ليسطروا ميسلون «الكبرى» فتكون على المسار نفسه الحركة والمكان والسمت.. وفي التصميم على القتال والمواجهة

امتحان المسؤولية الوطنية
رابعاً: كمعركة «سابقة» تمثلها السوريون في حربهم الوطنية الكبرى ضد المؤامرة الإرهابية العالمية الأكبر منذ عام 2011، لتكن ميسلون «الكبرى» إن جاز لنا التعبير إذا ما قسناها بالظروف الدولية بين الحقبتين التاريخيتين، وليس كنتيجة نهائية، فالمحتل هو نفسه وإن اختلفت التسميات، والمتآمرون والخونة أنفسهم وإن اختلفت التسويات، وحتى الظروف الإقليمية ذاتها وإن اختلفت الخرائط الجغرافية.. ميسلون 1920 والحرب الإرهابية على سورية 2011 وحتى اليوم يجمعهما مسار واحد في الحركة والمكان والسمت، وتوحدهما المعاني والدلالات والتصميم في معارك الدفاع عن الوطن مهما بلغت التضحيات.
خامساً: كمعركة كانت امتحاناً للمسؤولية الوطنية، في السياسة كما في العسكرة، ولئن سجلت السياسة انهزاماً حينها فإن العسكرة المتمثلة بجيش ميسلون سجلت سفراً باهراً في الوطنية، فكانت هي النبراس والنموذج لتصحيح مسار السياسات.. وفي معركة سورية مع الإرهاب كان هناك- في كل يوم حتى اليوم – امتحان للمسؤولية الوطنية، في السياسة وفي العسكرة، مع فارق أن السوريين تعلموا درس ميسلون، وكيف أنه ليس من المستحيل توحيد السياسة والعسكرة تحت سقف الوطن الواحد والنصر الواحد.

شكلت ميسلون امتحاناً للمسؤولية الوطنية.. ولئن سجلت السياسة انهزاماً حينها فإن العسكرة المتمثلة بجيش ميسلون سجلت سفراً باهراً في الوطنية فكانت النبراس والنموذج لتصحيح مسار السياسات

سادساً: ما الفرق بين مؤامرة «سايكس – بيكو» ومؤامرة «الربيع العربي»؟.. الأولى كانت قراراً استعمارياً، فرنسياً بريطانياً بالعدوان على سورية وتمزيقها (والمقصود هنا سورية الكبرى)، وكانت مغطاة أممياً (عصبة الأمم).. والثانية كانت أيضاً قرار عدوان دولياً لتطويق وتطويع سورية الجيوسياسية والجيواقتصادية (والمنطقة العربية) ومغطاة أممياً أيضاً (الأمم المتحدة).
الفرق هنا أن المؤامرة الأولى كان جيشها بريطانياً فرنسياً، أي وجه عسكري واضح ومعلن، والمؤامرة الثانية كانت جيوشها الإرهاب الدولي، إرهابيون من كل مكان في العالم تم تجنيدهم وتجميعهم، وتغطيتهم بشعارات إنسانية وألوان سياسية ومذهبية ما لبثت أن فضحتها ممارساتهم الدموية الوحشية.. وإذا كان السوريون يقاومون ويقاتلون اليوم متمثلين ميسلون الأولى فإنهم يفعلون ذلك كي لا تكون نتائج المؤامرة الثانية كما الأولى، ولكي تكون ميسلون «الثانية» سفراً بطولياً آخر يؤسس لعودة سورية الدولة أقوى وأشد تحصيناً، سورية منتصرة على الإرهاب وداعميه.

عقيدة ميسلون
في ميسلون 1920 قاتل الجيش السوري ومعه المتطوعون، جيشاً حديثاً يفوقهم بأضعاف مضاعفة عدداً وعدة، واليوم يقاتل الجيش السوري في الوضع ذاته، يقاتل قوى مدعومة بقدرات تكنولوجية ولوجستية ومالية وإعلامية وسياسية مهولة وهائلة، ولكن لا يمكن بالمطلق أن نتحدث فقط عن التشابه في هذه النواحي، بقدر ما يجب علينا أن نتحدث عن الحالة التأسيسية التي كرستها معركة ميسلون لناحية الدروس المستفادة وترجمتها واقعاً، فإذا كانت الظروف تتشابه لناحية فروق العدد والعدة فإننا اليوم نتحدث عن دولة موجودة وقائمة تربعت على عقود من الاستقرار ومن القوة والمكانة، إقليمياً ودولياً، بعكس عام 1920 عندما كانت الدولة (المملكة حينها) لا تزال وليدة وبحاجة للوقت كي تنهض وتجابه قوى عسكرية استعمارية كفرنسا وبريطانيا.. هذا ونحن لم نتحدث عن الظرف العربي حينها، الذي كان متشرذماً ومقزماً وتابعاً في آن لأجندات هذه القوى نفسها التي حلت في المنطقة بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية.

في معركة سورية مع الإرهاب هناك – في كل يوم- امتحان للمسؤولية الوطنية.. السوريون تعلموا درس ميسلون وكيف أنه ليس من المستحيل توحيد السياسة والعسكرة تحت سقف الوطن الواحد والنصر الواحد

وعليه، ففي عام 1946 أعيد تأسيس الجيش السوري على عقيدة ميسلون البطولية من جهة، وعلى الوحدة الوطنية من جهة ثانية، وعلى مسار علاقات صحيحة بين السياسة والعسكرة على قاعدة الوطن أولاً وآخراً.. وهذا ما حمى سورية وجعلها تتجاوز تحديات وجودية خطرة (أحلاف ومعاهدات ومؤامرات وصراعات داخلية وعربية) لا تقل عما يمثله المحتل وقوى الإرهاب العالمية.

كرامة وشهادة
لكل ذلك وغيره كثير، يحتفي السوريون كل عام بميسلون، المعركة والشهداء والبطولات.. بميسلون الدرس الوطني والعبرة التاريخية، والدولة التي أسست لها.. بميسلون التي ستبقى رايتها مرفوعة.. بميسلون الجيش العربي السوري من قبل ومن بعد.. بميسلون التي نحتاجها لتبقى فينا قوة ودافعاً، لتبقى أيقونة الزمان والمكان، أيقونة وطن يجمعنا.. وإذا ما اجتمعنا في الوطن لن يكسرنا عدوان، ولن يفرقنا خائن، ولن يهزمنا عميل متآمر.
ميسلوننا ستبقى قائمة ما دام الوطن في خطر.. معركتنا مستمرة حتى دحر الإرهاب والعدوان.. معركتنا مستمرة لتبقى سورية وطناً نستحقه.. معركتنا مستمرة حتى يقضي الله نصراً مستحقاً لسورية بشفاعة كل الدماء التي سقت أرضها حباً وكرامة وشهادة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار