مها سلطان:
مبكراً بشرت استطلاعات الرأي مارين لوبان -زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية في فرنسا- برئاسة البلاد، معتبرة أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بحكم المهزوم، حتى وإن كانت هناك جولة ثانية من الانتخابات الرئاسية المقررة بعد 13 شهراً من الآن، أي في نيسان 2022.
الأمر نفسه يجاهر به وزراء ومسؤولون في إدارة ماكرون، داعين الفرنسيين إلى قطع الطريق على لوبان (ويمينها المتطرف).
صحيح أن مسافة زمنية طويلة ما زالت تفصلنا عن هذه الانتخابات، بما يجعل الحديث عنها قد يكون في غير وقته، فهي لم تشهد بعد السخونة المطلوبة لتناولها بالشرح والتحليل، إلا أن استطلاعات الرأي في فرنسا لم يحدث أن أخطأت في تحديد هوية من سيفوز..
الفارق اليوم أن هذه الاستطلاعات بكرت في حسم من سيفوز، وفي تحذير ماكرون من أن لوبان قد لا تحتاج جولة ثانية لتأكيد فوزها، وهذه رسالة واضحة وقاسية تنبهه إلى وجوب تكثيف العمل والجهد إذا ما أراد الاحتفاظ بالرئاسة، حيث لا يزال أمامه وقت طويل وكاف تماماً ليقلب الاستطلاعات، والأمر ليس صعباً إذا ما عرف كيف يستثمر الوقت مهما كانت الأزمات التي تعصف حالياً بالبلاد وتالياً برئاسته، من الوضع المعيشي إلى أزمة كورونا مروراً بالهجرة، وملف الإصلاحات، والسترات الصفراء، والهجمات الإرهابية.. إلخ.
بكل الأحوال لا يبدو مستغرباً أن تتصدر لوبان استطلاعات الرأي، ففي انتخابات 2017 صعدت مع ماكرون إلى الجولة الثانية، وهي وإن كانت قد خسرت بمواجهته إلا أن ذلك لم يخرجها من ميدان المنافسة، بل عمدت إلى تعميق نقاط القوة ومضاعفتها، ساعدها في ذلك ظروف وتطورات داخلية وأوروبية دفعت بمجمل اليمين المتطرف إلى المقدمة وإلى اعتبار أنه قد يكون الحل في فرنسا وفي غيرها من الدول الأوروبية.
والسؤال: ما الذي تغير فعلياً لتنقلب المعادلة لمصلحة لوبان؟
أولاً.. والأهم حسب المراقبين -والذي بات اليمين المتطرف الذي تمثله الجبهة الوطنية بشكل أساسي يتفاخر به- أن «الجبهة لم تعد تخيف الناس» كما يقول مسؤولون فيها، ليضيفوا: «..يتم الآن تصنيفنا بالشعبويين وليس باليمين المتطرف» واصفين لوبان بالنجمة التي تملك طاقة كبيرة في التواصل مع الفرنسيين وكسب أصواتهم حتى في ظل ما تشهده البلاد من حظر بفعل إجراءات مواجهة وباء كورونا.
لنتذكر هنا أن أحد الأسباب الرئيسية لهزيمة لوبان أمام ماكرون في انتخابات عام 2017 كان اعتماد هذا الأخير ضمن حملته الانتخابية على تخويف الفرنسيين من الجبهة باعتبارها «صاحبة أجندة قومية متشددة تهدد بتمزيق المجتمع الفرنسي».
هذا التخويف سقط مع بدء الفرنسيين تغيير نظرتهم للجبهة والتطلع إليها كطرف حريص على الهوية الوطنية والسيادة والدفاع عن قيم الجمهورية بمواجهة مخاطر باتت داهمة كالإرهاب المرتد والإسلاميين والهجرة.
ثانياً.. استطاعت لوبان توسيع الزخم الذي حققته في انتخابات عام 2017 على المستويين الداخلي والأوروبي.
ففي الداخل ظهرت لوبان في موقع المعارض الأقوى لماكرون لتفجر في وجهه الكثير من الملفات والقضايا، وتطرحها للنقاش العام، وتجادل فيها ماكرون ووزراءه ومسؤوليه متسببة في حرج كبير لهم أمام الفرنسيين.. هذا عدا عن الفوز الذي حققته جبهة لوبان في انتخابات التجديد النصفي والانتخابات البلدية الأخيرة، التي مُني فيها ماكرون وحزبه بخسارة كبيرة وهو ما تم اعتباره بمثابة تصويت على سياسات وشخص ماكرون وترجمة فعلية لواقع فرنسي جديد يصب في خدمة لوبان.
وعلى المستوى الأوروبي فازت قائمة الجبهة في الانتخابات البرلمانية الأوروبية في أيار 2019 بنسبة وصلت إلى 24 بالمئة، وهي ليست بالقليلة إذا ما أخذنا بالاعتبار النظرة السلبية جداً التي كانت سائدة أوروبياً للأحزاب اليمينية ومنها الفرنسية.
ثالثاً.. تخوض لوبان حملتها تحت شعار «الأولوية الوطنية» وعلى أساس أفكار واضحة هي رفض أوروبا واليورو، وتعلن أنها إذا ما فازت في الانتخابات الرئاسية فإنها ستحذو حذو بريطانيا في دفع فرنسا خارج الاتحاد الأوروبي.
وحسب المؤشرات فإن الفرنسيين لا ينظرون بسلبية إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. وإذا ما نجحت بريطانيا في تجاوز المرحلة الأولى الصعبة للخروج فإن ذلك سيكون مشجعاً للفرنسيين لفعل المثل.
رابعاً.. هناك فريق من المراقبين يلخصون المعادلة الانتخابية المقبلة بما يسمونه «مفارقة لوبان» ففي حين أن معارضيها لا يزالون مقتنعين بعدم قدرتها على الفوز إلا أنهم جميعاً ومن دون استثناء حجزوا لها مكاناً رئيسياً في المشهد السياسي الفرنسي لدرجة أنهم بنوا إستراتيجيتهم الانتخابية على وجودها في الجولة الثانية من رئاسيات 2022 لأن صعودها إلى الجولة الثانية سيقود تيار ماكرون «تيار الوسط» إلى مزيد من الخسائر على المستوى الشعبي، وهذا سيصب في خدمتهم لناحية تعزيز حضورهم شعبياً تمهيداً ليكونوا المنافس الفائز في الانتخابات ما بعد المقبلة.
خامساً.. خلال عام مضى ظهر ماكرون كيميني متطرف أكثر من الجبهة الوطنية وزعيمتها لوبان، من خلال سن سلسلة قوانين تصب في خدمة اليمين المتطرف كقانون الانفصالية، وحملته على ما يسمى الإيديولوجية الإسلامية والإسلام الراديكالي، حتى إنه ومنذ أشهر تكاد أجندته تقتصر على هذه المسائل فقط، متجاهلاً الأزمات الصحية والاقتصادية، مخاطراً بخسارة أصوات المسلمين واستعدائهم بسبب حالة التعميم التي يعتمدها عندما يتحدث عنهم بوسمهم جميعاً بالإرهاب والتطرف، داخل فرنسا وخارجها، معتبراً «أن الإسلام يعيش أزمة في كل مكان» ليثير موجة غضب عارمة في بلاده والعالم الإسلامي، حتى اضطر للاعتذار على الملأ ولكن من دون أن يتخلى عن هذا الحديث وإن كان سعى للتخفيف من حدته قليلاً.
وحسب المحللين فإن هذا التخفيف لن ينفع ماكرون باعتبار أن الضرر قد وقع.. لتأتي لوبان وتلعب بذكاء على هذه المسألة مستقطبة المسلمين بخطاب متوازن يركز هجومه على الإرهابيين والمتطرفين.
سادساً.. وجد ماكرون نفسه مجبراً على مراجعة أجندته أو خطة عمله حتى لا يقع في شرك الأحزاب الأخرى وعلى رأسها الجبهة الوطنية، فمع توالي الأزمات والانتكاسات في عهده والتي تركت الفرنسيين مُنهكين، كان لا بد لماكرون أن يلعب بأوراق الخصوم خصوصاً لوبان، فهو على سبيل المثال أعلن تأجيل المناقشة السنوية حول الهجرة التي كانت مقررة في كانون الأول 2020 في الجمعية الوطنية، إلى أجل غير مسمى حتى لا تكون منبراً يعزز سياسات لوبان التي تربط بشكل وثيق بين الإرهاب والهجرة.
ما سبق لا يعني أن لا عقبات في طريق لوبان؛ المراقبون يرون أن أمامها «تلة هائلة عليها تسلقها للوصول إلى قصر الإليزيه»؛ أولى العقبات متمثلة في الانتخابات الإقليمية المقررة في حزيران المقبل، إذ لم تنجح الجبهة الوطنية قط منذ تأسيسها عام 1972 في انتزاع رئاسة إقليمية في بلد كفرنسا تتطلب فيه العديد من الانتخابات جولة ثانية من التصويت تسمح لخصوم الجبهة بتوحيد صفوفهم وإيقاع الهزيمة بها.. ودائماً تحت عنوان مواجهة اليمين المتطرف.