في المتحف الوطني بدمشق… لوحاتُ «سارة شمّة» كائناتٌ حيّةٌ تتألمُ وتَهرَم!
تشرين- جواد ديوب:
تصدمُكَ لوحاتُ الفنانة السورية سارة شمّة المعروضةُ حالياً في أروقة وصالة المتحف الوطني بدمشق بعنوان “أصداء 12عاماً”، وتترك في المُشاهد نوعاً من الفزع، فزعٌ مع طعم المرارة في الحلق، فزعٌ يذكرني شخصياً بالرسّام البريطاني (فرنسيس باكون) -للمصادفة القدرية الفنانة شمّة تقيم في لندن منذ عام 2016 – الذي جعله “فزعُهُ الخاصُ” يرسِمُ بورتريهاتِه المشوَّهة “بحثاً عن أناه/تلكَ القطعة من التِّبر الخالص، تلك الماسةُ الدفينة”!
ما حملني بدايةً على هذه المقاربة هو لوحةُ الفنانة شمّة المرسومة ضمن أعمالها لعام 2015 بعنوان “بورتريهات حرب أهلية عالمية” يبدو فيها جسدُ إنسانٍ عارٍ معلّق من أقدامه بسلاسل فيما تبينُ وراءه بشكلٍ شفيفٍ قطعةٌ كبيرةٌ مخيفةٌ من فخذ عجلٍ مبتورةٍ تُنقّطُ دماً! وهي لوحةٌ تتشابه إلى هذه الدرجة أو تلك مع لوحات “باكون” التي تحمل عنوان “دراساتٌ للجسد البشري” حيث أمكنَه أن يضعَ عيناً مكان الأنف أو أن “يخلق” جسداً بثلاث أرجل منطلقاً إمّا من مبدأ سوداويّ جعله يقول: “من المؤكد أننا من لحم، وأننا هياكل عظمية بقوة الأشياء، فإذا ذهبتُ إلى الجزّار، أجِدُ من المفاجئ دوماً أنني لستُ في مكانِ الحيوان المُعلّق”، أو من مبدأ “جمالي” لا يمكن فهمه إلا بكونه فناناً إذ يقول: “محلاتُ الجزّارين مرعبة، لكن هناك، بالنسبةِ لرسّامٍ، يوجدُ الجمال العظيم الكامن في لون اللحم”.
لكن الفنانة شمّة لم ترسم لوحاتها (هناك بورتريهاتٍ شخصية لها أحدُها يبرزُ خلفها هيكلٌ عظميٌّ كأنه أناها الأخرى، وبورتريه لوجهها وأمامه في انزياحٍ شبحيٍّ ما يشبُه جمجمةً تصرخُ في وجهنا مع عيونٍ جاحظةٍ ولسانٍ ممدود) لم ترسم لوحاتها من مبدأ جماليٍّ بقصد التميز الفنّي إنما من هول الصراع الدائر في سورية وما أسمته هي بـ”حربٌ أهلية عالمية” لأنه برأيها “كل خسارة هي خسارةٌ للجميع، وتفتّتُ وتشتّتُ المجتمع الثقافي الحيوي في سورية؛ هو من أفعال تدنيس الثقافة على المسرح العالمي، والفقدانُ المروع المستمر في الأرواح هو شهادةٌ حزينة على النطاق العالمي للحرب”!
تلك الأعضاءُ البشرية المعلقة، وتلك الوجوهُ المنهكة البائسة المضروبةِ بلطخاتٍ قاسيةٍ وألوان رماديةٍ وصفراء شاحبة، تلك الأجسادُ المتكومة فوق بعضها (لوحة كبيرة قياس سبعة أمتار بمترين ونصف المتر) لا في حالةِ عناقٍ او حميميةٍ جسدية بل في انسحاقٍ وشبه انبعاجٍ والتواءاتٍ، كلها تقودنا إلى البحث في أسئلةٍ وجوديّةٍ مثل: أينَ هو الحدّ الذي تكفُّ فيه الـ”أنا” المهددة بالموت عن كونها “أنا”؟ وبعد أيِّ حدٍّ من “التشويهِ”(التعذيبِ/العنفِ/الإكراهِ/الحروبِ) يمكن للوجه/الجسدِ/الإنسانِ المشوَّهِ أن يبقى “جميلاً/بشريّاً” في نظرِ صاحبِهِ أولاً، وفي نظرِ العالم كله تالياً؟!
الطابور!
يضم المعرض الحالي في متحف دمشق الوطني لوحاتٍ متفرقة من معارض عدة أقامتها الفنانة شمة في المملكة المتحدة البريطانية والكويت ودبي، منها لوحةٌ تنتمي إلى معرضها في لندن “الطابور” حيث تريد شمّة لنا أن نستشعرَ القلقَ والسلوك الجمعي المتوتّر للبشر المصطفين في طوابير “متوقعين أنهم آمنينَ بقربهم وتلاصقهم وأنهم يقفون فيه ليحصلوا على أشياءَ مهمةٍ ونبيلةٍ في حين هم وبسبب وقوفهم ذاك يفقدون هويتهم البشرية الحقيقية بل فاقدين لليقين الحقيقي حيال ما ينتظرهم”!
ولذلك تظهرُ في مقدمة اللوحة امرأةٌ شابّةٌ تسندُ ظهرها المتعب بيديها، فيما الانزياحُ الذي تتبعه شمّة في معظم أعمالها يجعل تلك الشابة تبدو بوجه امرأة عجوزٍ أفقدها الوقوفُ الطويلُ المريرُ في الطابور حيويتها وسنينَ عمرها الأجمل، فيما هناك “بالوناتُ” أملٍ تحومُ فوق رؤوس بشرِ الطابور اللانهائيّ.
مفارقةُ “العُمْر”!
لفتتني إحدى لوحات الفنانة شمة، وهي تنتمي إلى معرضها المعنون بـ “العُمْر/الكويت/2022) لوحةٌ فُرشت أرضيتها بالأحمر القاني وتبدو الفنانة شمة نفسُها كأنها تسيلُ على شكلِ قطراتِ ماءٍ من أطراف أصابعها الممسكة بخطِّ عُمرها المائيّ ذاك، والمدهشُ في اللوحة هو أننا إذا دققنا سنجدُ داخلَ قطرة الماء تلك وجهَ الفنانة شمة كأنها تمثالٌ ثلجيٌّ يذوبُ شيئاً فشيئاً!
تقولُ شمّة عن الزمن/العمر: “مع التقدم في العمر، يتغيّرُ إدراكنا للوقت، يشعرُ الشبابُ بأن لديهم كل الوقت في العالم، ورغم ذلك هم يُسرعون في كل شيء، بينما يشعرُ كبار السنّ بأنَّ وقتَهم محدودٌ، ومع ذلك يصبحون أبطأ في كل شيء…يا للمفارقة!”.
“واقع افتراضي”!
كما يضمُ معرضُ شمّة تجربةَ عرضٍ افتراضية/ديجتالية جديدة من نوعها اسمها “داخل عقل سارة شمّة” نسبحُ فيه عبر خوذةٍ الكترونية في عالم ثلاثي الأبعاد تهيمُ فيه تجسيداتٌ لشخوص لوحاتها، والبالوناتُ الطائرة، ودهاليزُ الوقت، ولوحةُ “العمر” الحمراء تلك والتي تصبح نقطةً عملاقةً تُشعرُ الناظرَ كما لو أننا نحنُ/بشرُ هذا المكان أصبحنا ماءً يتسرّب إلى المجهول!.
طفولةٌ حالمة!
ولعل شمة في تنقيبها عن الزمن المتفلّت الزئبقي وجدت أن الطفولة بمعناها الحياتي والرمزي هي جوهرُ التغيير والتغيّر الملاصقين لنهر الزمن المتدفق الجبار في محاولة منها تثبيت اللحظات الهاربة ولو بوهمٍ لونيٍّ اسمُهُ: لوحات!
ولذلك أيضاً دعت مجموعة من الأطفال إلى مرسمها في لندن ليرسموا ما يفكرون ويشعرون به، ثم دمجت رسوماتهم/أحلامَهم في لوحاتها في شكلٍ بصري كأنها مشاهد تصويرية سينمائية: خطوطُ خربشاتهم في مقدمة اللوحة فيما وجوه الأطفال أنفسهم خلفها كأنهم حلمٌ داخلَ حلم!