في الثقافة الشعبية قولٌ مسلّمٌ به: “المكتوبُ بيّنٌ من عنوانه” ومن المفارقات أنه يُقال للذمّ وهو في الواقع تقييمٌ لما كُتِب تحت هذا “العنوان” حتى لو كان المعنى مجازياً، ولأننا لسنا في صدد بحثٍ أنثروبولوجيّ بل نستعير ما يتاحُ لنا من عوالمَ أخرى حين نكتب في الثقافة، سنذهب إلى عناوين الروايات، التي غالباً ما يعمد كتابُها إلى نَحْتها بعناية فائقة بأقل الكلمات لتكون بقيمة الرواية الفسيحة المتدفقة، حتى إنها تشبه مفتاح مغارة “علي بابا” تجذب القارئ لينزل ملهوفاً إلى صناديق الكنوز، لكنني حين أسترجع في الذاكرة حواراتٍ مطوّلة مع روائيين، لا أعثر على سؤالٍ ضمن باقة الأسئلة عن سرّ العنوان إن كان هناك من سرّ، فقد مرّ بي عنوان “مفترق المطر” ليوسف المحمود مرور بيت شعريّ أخاذ ذاب فوراً في أحداث روايته المدهشة التي كانت سيرةً ذاتية ارتقت إلى رواية بلغت خمس مئة صفحة وبدا فيها أحدُ الأرياف السورية خلفيةً آسرة بعاداته وتقاليده وتفاصيله وقاموس مفرداته، لكنني في حوار الشعراء فعلت وكأن الشعرَ أقلُّ ملوحةً من ماء الرواية وأكثرُ احتفاءً بالألفاظ ووضوحها في السلاسل التي تلضُم “الجواهر”!
لم يحدثني روائيٌّ يوماً عن مشقّةٍ في البحث عن عنوان روايته كما يفعل صنّاع الأفلام أو مؤلفو المقطوعات الموسيقية أو حتى كتّاب القصة القصيرة الذين يترددون على أكثر من باب ليجدوا الأفضل، ربما لأن الروائي يعيش زمناً طويلاً في أزقة وشوارع ومنازل عمله فيسهل عليه وضع “دقّاقة” الباب في مكانها المناسب كما في “الشراع والعاصفة” لحنا مينه و”الرأس والجدار” لعبد الله عبد و”الوباء” لهاني الراهب و “حب في بلاد الشام” لنادية خوست” و”النعنع البري” لأنيسة عبود! ولأن قارئ الرواية هو أيضاً له ميزات مثل الروايات نفسِها سيذهب في عمر نضارة القلب والوعي إلى رومانسيات العناوين مثل “بعد الغروب” لمحمد عبد الحليم عبد الله” قبل أن يفتح قلبه “لأم سعد” غسان كنفاني ودفق الأدب العربي الثمين!
وقعتُ مرة واحدة في فخ عنوان “سربٌ من الطيور البيضاء” لليابانيّ “ياسوناري كواباتا” كما “الكلب الأبلق الراكض باتجاه البحر” لجنكيز إيتماتوف” فالطيور كانت مجرد نقشٍ على طقمِ فناجين الشاي، والكلب الأبلق كان جبلاً يغسل قدميه في ماء البحر، أما العنوان الذي كان ثلاث كلمات فحسب لكنه أثّر بي تأثير رواية كاملة فهو “ماتوا ورؤوسهم محنية” للكاتب التركي “يلماز غوناي” ولن تنتهي الحكاية مع الرواية!
نهلة سوسو
125 المشاركات