الرُّقارِق

في رحلة طويلة جداً مع الرواية، سبُبها الرئيسيّ برنامجٌ إذاعي اسمه “شخصيات روائية” كانت بمثابة تخصُّصٍ لا ينتهي في عالم الرواية! وكان البحثُ الأسبوعيّ ينقلني من بلد إلى آخر، ومن قارة إلى أخرى دون عناءٍ يُذكر، إذ كانت المكتبات مشرعةَ الأبواب في أهمّ شوارع وسط العاصمة تتنافس في عروض عناوينها وربما تستأثر بكل واحدة منها دارُ نشر وطنية أو قومية، بينما لا تتوقف وزارة الثقافة عن تزويد “منافذها” بروائع الأدب العالمي المترجم بشكل أساسيّ عن اللغات القوية الشائعة: روسية، إنكليزية، فرنسية، إسبانية، بلغارية، وقربها كان الأدب الياباني يزاحم مطبوعاتها، خاصة حين ينال كاتبٌ جائزة “نوبل” أو يُرشَّح لها! وضمن هذا التدفق المحمود كان الأدب الأوروبي والأمريكي واللاتيني وكذلك الأفريقي يُقبل إلينا لأنه مكتوب بإحدى هذه اللغات ومعه أيضاً أساطير الشعوب وملاحمها، ويا للفرحة حين تكون الرواية عن الأمهرية أو لغةٍ لا نعرف عنها الكثير!
بعد الإشباع الذي يصيب القارئ، وهو غير “التخمة” لأن التخمة لا تتسلل إلى الروح كما تفعل بالبدن، بعد هذا ستكون الدهشة لغياب الأدب الصيني، حيث ندرةٌ نادرة للرواية والقصة والشعر! وفي افتقادها بين دفق الروايات العالمية غزيرة الماء والهطْلِ سيكون الحال كما وضعُ أصابع اليد في “الرُّقارِق” أي الماء الضَّحلُ أو “الضحضاح”! وفي الفلسفة الإنسانية تحضُر الصين بقوة، لأنها بنَت عبر التاريخ أسلوباً خاصاً في رؤية الكون وتفسيره، وعمدت إلى فنون فريدةٍ لا مثيل لها بين الفنون الأخرى، حتى إننا سمَّينا الخزف بالصِّيني من دون أن نراجع هذه التسمية ومن دون أن نميّز “الخزف” كفنٍّ رفيع عرفته الشعوب في مراحل تقدمها وجنوحها إلى الفن الرفيع كما عرفته الصين، كذلك حرير القزّ الطبيعي سرُّ أسرارها! إذاً أين الأدب الصيني بين الآداب العالمية؟ ولماذا لم يصلنا منه إلّا شذراتٌ هي عبارة عن قصص تكنز الكثير من الحكمة التي جاء معظمها من الكونفوشية (كونفوشيوس)؟ من أين جاء هذا التحفظ على نشر الأدب حتى لا أقول التكتم؟ هل من صعوبة اللغة؟ قطعاً لا، حتى إن السؤال يبدو ساذجاً، لأن اللغات بأسرها باتت تتقارب وتنفتح على بعضها، والدول في هذا العصر تبادر لافتتاح المعاهد والكليات للغاتٍ أخرى، كضرورة لفهم أصحاب اللغات المغايرة، وهذا غير العلاقات الدبلوماسية والاهتمام بالسفارات، فما هو سرُّ الصين التي أغرقت العالم بصناعاتها، وأبقت آدابها خلف سورها العظيم، رغم أنه هو الآخر لم يعد سوراً بل مَعْلماً أثرياً وسياحياً؟!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار