في عيد «أكرم من في الدنيا».. سورية وطن يستحق.. وطن أعمدته شهداء لا يُهزم.. فلنسيّجه بأرواحنا ونعمّده بدمائنا حراً شامخاً أبداً
تشرين – مها سلطان
وفي السنة الـ14.. ومن دون «استراحة محارب».. ما زال السوريون، وفي كل يوم، يعلقون أوسمة الشهادة على صدورهم.. يضمون إلى القلوب صور أحباء مضوا في دروب الوطن ليكونوا قرابين عزة وشرف في سبيل سلام مستحق لسورية، يرونه بعيداً ونراه قريباً، وغدُ السلام هو لناظرنا أقرب مما يعتقد الأعداء والخصوم والمتخاذلون.. وإن كان هذا الغد بعيداً فإن أبناء سورية الذين مضوا ويمضون على طريق الشهادة، سيجعلونه أقرب فأقرب، لا خوف على وطن تسيجه أطهر الأرواح وتروي ترابه أنقى الدماء وأغلاها، لا خوف على وطن أعمدته شهداء، لا خوف على وطن طيبه شهادة تعبق فتملأ عنان السماء، طيب أرواح نقية فواحة بالتضحية، تحمل الوطن نفساً أخيراً شهقت به، ليحيا أبداً.. ولنحيا، نصبح ونمسي على وطن شامخ حرّ.
هذه هي سورية، وطن أعمدته شهداء لا يُهزم مهما أمعن الأعداء في التآمر وسفك الدماء.
ما زال السوريون وفي كل يوم يعلقون أوسمة الشهادة على صدورهم.. يضمون إلى القلب صور أحباء مضوا على دروب الوطن قرابين عزة وشرف في سبيل سلام مُستحق لسورية
في السنة الـ14.. ما زال السوريون، وعلى اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم وأعمالهم، يضحون بالروح، ويواصلون العمل المخلص حياةً يومية، العمل المخلص هو تماماً كالتضحية بالروح يحتاجها الوطن ليبقى وليكون أقوى، كل التضحيات تتكامل، وإن كانت التضحية بالدم هي الأكثر سمواً وعلواً، ومن مثل السوريين قدّم التضحيات ولم يبخل، ولم ينتظر.. ومن مثل السوريين يحفظ ويصون عهود من ضحوا بأرواحهم ليبقى الوطن.
هذه هي سورية، وطن أعمدته «شهادة، شرف، إخلاص» لا يهزم مهما أمعن الأعداء في التآمر وسفك الدماء.
في السنة الـ14.. والحرب الإرهابية على سورية لا تزال مستمرة فصولاً أشد وأقسى، ما زال السوريون على عهود الشهادة والشهداء يحملونها أمانات حتى يقضي الله سلاماً مستحقاً لسورية، لذلك كل يوم في سورية هو يوم للشهداء تعظيماً وتخليداً، كل يوم يزف السوريون شهيداً وأكثر، وفي بعض الأيام كانوا يزفون مئات الشهداء على امتداد الوطن، وفي كل زفة شهيد كان يجددون عهود الشهادة على طريق تحرير الوطن، فإما نصر وإما شهادة، في كل بيت سوري شهيد وأكثر، وبعض البيوت قدمت جميع أبنائها دفعة واحدة للشهادة، للوطن.
في كل بيت سوري شهيد وأكثر، في كل بيت سوري غصة وحرقة، ووجع يملأ أنينه عباب السماء..لا يخفي السوريون وجعهم ولا يكابرون على الغصة والحرقة.. يصبرون على البلوى وهم في الشهادة سواء، وفي الوطن المكلوم واحد.. تفنى الأبدان لتبقى الأوطان، وتبقى الأوطان ليبقى الأبناء، ليكملوا المسيرة في الحياة والبناء، وفي التضحية والشهادة متى حانت ساعتها.. ولن يكون السوريون إلّا كذلك شعباً وجيشاً وقائداً.
هذه هي سورية، وطن أعمدته شعب وجيش وقائد، تلاحم وتكاتف وإخلاص، لا يُهزم مهما أمعن الأعداء في التآمر وسفك الدماء.
6 أيار.. وطن يستحق
اليوم يحيي السوريون ذكرى 108 أعوام على اليوم الذي اختارته سورية يوماً لتخليد خيرة أبنائها.. إنهم سبع من القامات الوطنية الشامخة فكراً وثفافةً وعلماً، أراق السفاح العثماني دماءهم الطاهرة فجر يوم السادس من أيار من عام 1916 ليتحولوا منارات على طريق الخلاص من المحتل العثماني، ثم الفرنسي، حتى نالت سورية استقلالاً ناجزاً تباهي به الدنيا.
اليوم وبعد 13 عاماً من الحرب الإرهابية المستمرة على سورية، قدم خلالها السوريون عشرات آلاف الشهداء، وما زالوا يقدمون.. تحول يوم 6 أيار إلى يوم متجذر في حياة كل سوري، في كل بيت سوري.. تحول إلى يوم يجمع ويضم ويوحد السوريين، إلى يوم لا يمكن أن يغيبه النسيان أو أن يسقط من وجدان السوريين وعقولهم فقط لأن أيامهم اليوم كلها ومنذ 13 عاماً، هي مثل يوم 6 أيار من عام 1916، لا يجادلون في مسألة أن شهداءهم اليوم أعلى عدداً، وبما لا يُقاس، هذه ليست جوهر المسألة، ليست جوهر الشهادة، أو جوهر التضحية لأجل الوطن.. أياً يكن العدد فإن الغصة واحدة والوجع واحد، أياً يكن العدد فهم جميعهم شهداء في سبيل الوطن.. وطن كسورية يستحق التضحيات، يستحق شهداءه.. وشهداؤه أمانة في الأعناق كما هو الوطن أمانة في عنق كل سوري فـ«الوطن غال، والوطن عزيز، والوطن شامخ، والوطن صامد لأن الوطن هو ذاتنا.. فلا حياة إنسانية من دون وطن ولا وجود إنساني من دون وطن / القائد المؤسس حافظ الأسد».
.. «ومن لا يقاوم دفاعاً عن الوطن لا يستحق وطناً بالأساس، فالخضوع يعطي شعوراً كاذباً بالأمان وربما بالقوة وأحياناً بالوجود أو الكينونة، لكن إلى حين، إلى حين ينتهي هذا الدور وتنتهي المهمة المطلوبة، ليتم بعدها الاستغناء عن الأشخاص وعن الدول وعن الأوطان، وعندما يتم الاستغناء عن الأوطان، هذا يعني دمارها وزواله».. الرئيس بشار الأسد في كلمته خلال الاجتماع الموسع للجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي عقد يوم السبت الماضي في قصر المؤتمرات بدمشق.
هذه هي سورية
كل السوريين شركاء في هذا اليوم، يتشابهون بينهم في الشهادة والتضحية، ولكنهم لا يشبهون غيرهم. حتى الشهادة والتضحية لها خصوصيتها في سورية، لها وقعها، ولا نبالغ إذ نقول لها جبروتها إذا جاز لنا التعبير، جبروت أعجز العدو.
– في سورية قضى خيرة العقول، من علماء وخبراء ومخترعين ومطورين، رفضوا مغادرة الوطن، رفضوا أن يكونوا عملاء، ورفضوا حتى أن يكونوا على الحياد (لا بأس، كان العدو يكفيه الحياد، مقابل أن يحرم سورية من عقولهم).. فقضوا شهداء.
تفنى الأبدان لتبقى الأوطان.. وتبقى الأوطان ليبقى الأبناء.. ليكملوا المسيرة في الحياة والبناء وفي التضحية والشهادة متى حانت ساعتها
– في سورية، قضى خيرة الصناعيين، خيرة الكفاءات وأصحاب المنشآت الصناعية الوطنية.. رفضوا مغادرة الوطن، رفضوا أن يكونوا عملاء أو على الحياد، رفضوا أن يبيعوا مصانعهم وخبراتهم الوطنية للعدو، للمحتل.. فكانوا شهداء، وبعضهم ارتضى العوز، وآخرون اجتمعوا وتكاتفوا وأعادوا البناء من الصفر.
– في سورية، قضى فلاحون وهم يدافعون عن أراضيهم ومحاصيلهم، رفضوا تركها بوراً، ورفضوا إلا أن يجنوا عرق جباههم، رفضوا أن يفرطوا بثروة سورية الاقتصادية الأهم، ثروة غذاء استراتيجية تقويها في مواجهة الحصار الاقتصادي وحرب التجويع التي يشنها العدو، ثروة تعين السوريين وتشد عزائمهم، وما زالت هذه الثروة الاقتصادية الغذائية مستهدفة – بتعمد شديد – من الإرهابيين وداعميهم، يريدون ضرب عصب الحياة اليومية للسوريين وزجهم بكليتهم إلى دائرة العوز والفقر وصولاً إلى المجاعة وبما يدفعهم لليأس والاستسلام.
يقول الرئيس الأسد في اجتماع حزب البعث نفسه: «حتى في الحرب الاقتصادية أو الحرب الإرهابية ليس بالضرورة أن يكون الهدف هو الجوع بالاقتصاد أو القتل بالإرهاب، وإنما الهدف الوصول إلى ثقافة اليأس التي تتحول مع الزمن ومع التراكم إلى عقيدة أو ما يشبه العقيدة التي تحل محل العقائد الأخرى ومحل المبادئ، وبالتالي تدفع باتجاه التنازل عن الحقوق».
لكنّ السوريين بأغلبيتهم كانوا على وعي تام بهذا الاستهداف، ولم يترددوا لحظة في حماية هذه الثروة حتى لو دفعوا حياتهم في سبيل ذلك.
– في سورية قضى خيرة العمال، ومن كل القطاعات.. ذهبوا إلى أعمالهم ومعاملهم، وأرزاقهم، وهم يعلمون أنهم قد يستشهدون في أي لحظة، واستشهد العديد منهم، كم من عامل كهرباء قضى شهيداً على يد الإرهابيين وهو يؤدي عمله بإعادة التيار الكهربائي، كم من عامل بناء، ونظافة، ومرور، واتصالات ونقل.. إعلامي، طبيب، مهندس.. الخ. رفضوا إلا أن يكونوا، كل في ميدانه، يعمل بإخلاص، ويضحي، ويحمي الوطن بدمائه؟
في سورية قضى خيرة العقول من علماء وخبراء ومخترعين ومطورين.. خيرة الكفاءات الوطنية من فلاحين وصناعيين وعمال.. خيرة الطلبة وهم مستقبل الوطن.. شهداء قضوا لنحيا ويحيا الوطن عصيّاً على كل عدو ومتآمر
– في سورية قضى خيرة الطلبة، وهم مستقبل سورية وضمانتها وحصانتها.. رفضوا التزام البيوت، ذهبوا إلى مدارسهم فكانت يد الإرهاب بانتظارهم، كم من طالب قضى شهيداً بحافلة، أو متنقلاً من منطقة إلى أخر طلباً للعلم والتعلم، كم من طالب قضى شهيداً رافضاً أن يتجند إرهابياً ضد الوطن؟
– في سورية قضى خيرة الآباء والأمهات شهداء وهم يدافعون عن بيوتهم، عن أرضهم، عن أطفالهم، عن وطنيتهم، رافضين أن يكونوا أدوات ضد الوطن، رافضين أن تكون قراهم معبراً للإرهابيين، أو مرتعاً للمحتلين.. كم من مواطن قضى وهو يقاوم المحتل التركي والأميركي بحجر يلقيه وهو يعلم أنه في الميدان قد لا يشكل فارقاً، لكنه يشكل موقفاً وطنياً حازماً يسجله للوطن وللتاريخ، وحتى لا يُقال إن السوري ارتضى محتلاً أو أن يكون مؤتمراً من إرهابي أو عميل؟
– في سورية قضى خيرة الأبناء شهداء، كل في ميدانه، لتبقى سورية وطناً لا يهزم، ولا يسقط مهما اشتدت المؤامرات والخطوب، ومهما امتدت الحرب الإرهابية فصولاً جديدة.
– فجر الشهداء
لنعد بالتاريخ، 108 أعوام مرت، ساحة المرجة، وسط العاصمة دمشق، ما زالت شاهدة، ما زالت صباحاتها تعبق بطيب شهادة سبعة من خيرة أبناء سورية: شفيق العظم، عبد الوهاب المليحي، عمر بن عبد القادر الجزائري، شكري العسلي، رفيق سلوم، الشيخ عبد الحميد الزهراوي، ورشدي الشمعة.
في الساعة الثالثة من صباح ذلك اليوم أنيرت أضواء ساحة المرجة، عبقت الأجواء بطيب الشهادة المنتظرة، واستعدت السماء لاستقبال «أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر».. وعلى ساحة بناية أحمد عزت العابد وقف السفاح العثماني جمال باشا ليراقب تنفيذ أوامره.
«وفي التوقت ذاته كانت ساحة البرج في وسط العاصمة اللبنانية بيروت تشهد تنفيذ أوامر السفاح نفسه بإعدام قامات وطنية أخرى من الأعلام اللبنانيين والعرب هم: بترو باولي – جرجي الحداد – سعيد بشارة عقل – عمر حمد – عبد الغني العريسي – الأمير عارف الشهابي – أحمد طبارة – توفيق أحمد البساط – سيف الدين الخطيب – علي النشاشيبي – العقيد أمين بن لطفي الحافظ – محمد جلال الدين البخاري – محمد الشنطي – سليم الحسني… لذلك فإن سورية ولبنان يحتفلان بعيد الشهداء في اليوم نفسه».
نُفذت الأوامر.. اعتقد العثماني السفاح أن جذوة الحرية والكرامة ستخمد، لكنّ السوريين نصّبوا ذلك اليوم كأحد أقدس أيامهم، وحملوا أرواح شهدائهم السبعة منارات تُضيء طريق النضال حتى طرد المحتل العثماني الذي سعى بكل إمكاناته على مدى أكثر من 400 عام لإغراق سورية وبقية الدول العربية في الجهل والتخلف، وهو صاحب إرهاب «الخوازيق» التي لم يشهد التاريخ – حتى في أحلك مراحله ظلماً وجوراً وعبودية – أشنع وأكثر إجراماً منها كوسيلة للتعذيب اللامتناهي قبل الموت الحتمي.. كل ذلك مقابل نهب ثروات وخيرات البلاد حتى لم يترك للعباد ما يقتاتون به لساعة واحدة، فقضى الآلاف منهم جوعاً.
– من العثماني إلى الفرنسي
وفي أيار، هناك أيضاً احتفالية للشهداء يُحييها السوريون، أواخر هذا الشهر، تخليداً لشهداء حامية البرلمان في دمشق، الذين سقطوا عندما قام المحتل الفرنسي بقصف البرلمان في الـ 29 من أيار من عام 1945 بالطائرات والمصفّحات، ليستشهد جميع أفراد الحامية من رجال الشرطة والدرك «باستثناء واحد منهم لُقب بالشهيد الحي» وبلغت وحشية المحتل الفرنسي أنه لم يكتفِ بذلك بل قام بحرق جثامين الشهداء بعد أن مَثّل بها.. السوريون يحيون كل عام ذكرى شهداء حامية البرلمان تحت عنوان «الأسطورة الخالدة» لـ 28 شرطياً ودركياً سورياً رفضوا الهزيمة والانسحاب أمام القوات الغازية.. نصبوا أجسادهم قبل البنادق متاريس في وجه الغازي وأقسموا ألّا يمر إلّا فوقها.. استشهد أفراد الحامية وبأجسادهم الدامية منعوه أن يمر.. ومن يدخل البرلمان «مجلس الشعب» سيجد لوحة مُتصدرة كتب عليها أسماء الشهداء وهم: «سعيد القهوجي – محمد طيب شربك – شحادة إلياس الأحمر – برهان باش إمام – مشهور المهايني – محمود الجبيلي – حكمت تسابحجي – إبراهيم فضة – محمد حسن هيكل – يحيى محمد الباقي – زهير منير خزنة كاتبي – ممدوح تيسير الطرابلسي – محمد أحمد أومري – محمد خليل البيطار– سعد الدين الصفدي – ياسين نسيب البقاعي – زيد محمد ضبعان – عيد فلاح شحادة – أحمد مصطفى سميد – أحمد محمد القصار– إبراهيم عبد السلام – جورج أحمر– محمد عادل مدني – واصف إبراهيم هيتو– عبد النبي برنية – طارق أحمد مدحت – سليمان أبو أسعد».. أما الشهيد الحي فكان إبراهيم إلياس الشلاح، والذي كان الشاهد الحي أيضاً ليروي بطولات رفاقه، وقد توفي في الـ24 من أيلول من عام 2002.
– على عهد الشهادة
وهكذا لم يكد السوريون يتخلصون من المحتل العثماني حتى جاءهم المحتل الفرنسي، وكما طردوا الأول طردوا الثاني ليحققوا هذه المرة استقلالاً ناجزاً في عام 1946 عصيّاً على الانتكاس أو الاختراق أو الانتهاك.. ولم تتوقف مسيرة النضال.. فما زال هناك من يحتل الأرض ويهدد سورية واستقلالها وحريتها، فكان هناك عدوان عام 1967، ثم حرب الاستنزاف التي تلت حرب تشرين التحريرية عام 1973.. وكان هناك عشرات الشهداء الذين تصدرت أسماؤهم ساحات المدن وشوارعها ومدارسها.. ثم لتتفرد سورية بإنشاء مدارس أبناء الشهداء تقديراً ووفاء لبطولات آبائهم الذين صانوا الوطن بدمائهم.
لكل ذلك، لنا أن نفهم لماذا هي الهجمة على سورية بهذا الحجم من الحقد والتآمر، والقتل والتدمير، ليسقط فيها للسوريين أضعاف مُضاعفة من الشهداء ممن سقطوا في عقود النضال الماضية.. ولا يزال السوريون يزفون الشهداء يومياً.. العدو نفسه، يستكمل مسيرة أجداده الغزاة القتلة، لكنه في كل مرحلة يطور أدواته الإجرامية ويوسّع حلف المجرمين بما يتناسب مع المرحلة التي يصل إليها من الوحشية والتعطش للدم.