قصص الأديب مالك صقور بمنظار ثلاثة نقاد
طرطوس – ثناء عليان:
أقامت اللجنة الثقافية لخريجي المؤسسات التعليمية السوفييتية والروسية فرع طرطوس، بالتعاون مع فرع اتحاد الكتاب العرب ومركز الشعلة، ندوة بعنوان “تجربة مالك صقور القصصية في منظور النقد”، وذلك في مركز الشعلة للأداء المتميز، شارك فيها ثلاثة نقاد وهم: الدكتورة هناء إسماعيل، والدكتور محمد علي، والناقد أحمد الحسين، وقد أدار الندوة الكاتب شاهر نصر.
بداية تناولت الدكتورة هناء إسماعيل في قراءتها التي جاءت بعنوان “هجاء الواقع وتجلياته الجمالية في قصص مالك صقور”، موضوعات صقور القصصية بشكل عام، والتي تعنى بالإنسان الكادح الفقير، وبهموم المثقف ذي المبادئ في عالم تحولات القيم، وبقضايا الفساد والوصولية والانسلاخ القيمي والثوري، والقضايا الوطنية “حب الوطن والتضحية”، والقضية الفلسطينية والحرب اللبنانية وقيم الصداقة وانقلاب المعايير الاجتماعية، حيث السخرية من كل شخص صادق مبدئي.
وعلى مستوى البناء الجمالي للنصوص تحدثت د. إسماعيل عن قصص مالك صقور وفق التبادل الوظيفي وما تقدمه عتبات الفضاء النصي؛ ومنها عتبة العنوان والتنقيط والبياض والغلاف، وما يقدمه الداخل النصي من تقنيات؛ مثل السرد والسرعة والحوار والرؤية السردية، مشيرة إلى استدعاء الكاتب في بعض قصصه الرموز التاريخية لهجاء الواقع ومعارضته، كقصة أبي حيان “لن أحرق كتبي”، إضافة لاستدعائه شخصية البطل الشعبي “أبو علي شاهين” لإظهار ضياع القيم الثورية، وقيم الحق والجمال مقابل العلاقات النفعية والوصولية.
وتطرقت إسماعيل إلى السخرية في قصص صقور والعجائبية من خلال نصوص مختلفة منها “السماء ليست عالية والجقل وسواها”، واشتغاله على بناء العالم النفسي للشخصيات، والعمق في تصوير أزمتها وتصعيد ما مرّ به من هجاء الأشخاص إلى هجاء الأفعال المذمومة، إذ يولد الأثر الجمالي تجاه مشاعر الشفقة والرغبة في إصلاحها، والحزن عليها لضعفها واستسلامها لشهوة السلطة أو المال وسواها، لا مشاعر الكره والبغض كما هي الحال في قصة “مذعور”.
واختتمت الدكتورة إسماعيل مؤكدة أن قصص صقور في معظمها واقعية تنطلق من الالتزام بالانسان والوطن وبحب الحياة رغم قسوتها، مشيرة إلى أن الأديب مالك صقور كان واحداً من ثلاثة كتاب الذين تناولت أعمالهم في أطروحتها لنيل الدكتوراه.
وقدم الدكتور محمد علي قراءة بعنوان “تقنيات السرد في القصة القصيرة عند مالك صقور قصة (درّة) أنموذجاً” إذ تروي قصة معلّم شاب يعيش حالة من العشق مع صبية بدوية اسمها (درّة) خلال عمله في تدريس البدو الرحّل، وصراعه الضمني مع شيخ القبيلة المزواج الذي يريد (درّة) لنفسه، وما ينتج عن ذلك من تداعيات نفسية واجتماعية تُضمر مقاربات ذاتية لأنساق ثقافية تميّز طبيعة هذا الصراع بين السلطة والمثقف، أو بين المركز والهامش. وقد جاء اختيار القاص لتقنية السرد الذاتي القائم على ضمير المتكلّم للمعلّم، وبذلك يضفي الراوي (المعلّم) انطباعاته الداخلية على الشخصيات والأحداث، إذ يوهم السرد الذاتي بتطابق أو بتماهي صوت الراوي في القصة مع صوت المؤلِّف الحقيقي في الواقع، كما يوهم بواقعية التجربة، وحقيقية الشخصيات، وهكذا فإن أسلوب السرد الذاتي يعطي المجال لصوت الراوي المندغم بصوت المؤلِّف لكي يبث آراءه وأفكاره خلال السرد، علماً أن الراوي المتكلم لا يحتكر السرد وحده، بل يترك المجال لبقية الشخصيات كي تعبّر عن نفسها أيضاً.
لقد جاء تنويع أساليب تقديم الشخصيات لدى القاص – حسب د. علي- مشفوعاً بغايات دلالية تتوخى التأثير في القارئ، وتوجيه مسار قراءته، ذلك أن الأسلوب يفرض حضوره على السرد بوصفه تقنية تسعى نحو كشف عوالم الشخصية، وتؤدي حركة الزمن في السرد دوراً جمالياً في ربط الأحداث ببعضها عبر تقنيات متعددة تسهم في تشكيل السرد زمنياً، وقد اعتمد القاص تقنية النسق الزمني المتقطّع، فهو يبدأ من الحاضر، عندما يضعنا أمام عقدة القصة مباشرة (حب المعلم لدرة وصراعه مع الشيخ عليها)، ثم يشرع في تفكيك هذه العقدة عبر سرد استذكاري يسترجع الماضي، لتؤدي تقنية الاسترجاع دورها في ملء الفجوات التي يخلفها السرد وراءه، وقد يلجأ القاص أحياناً إلى تسريع السرد، عبر تقنية الحذف أو الإسقاط، كما يلجأ أحياناً أخرى إلى تعطيل السرد أو إبطائه، عبر تقنيتي المشهد الدرامي والوقفة الوصفية.
بدوره قدم الناقد أحمد عزيز الحسين قراءة بعنوان (المفارقة وثيمة التّحوُّل في قصة “الجقل” لمالك صقور) أشار فيها إلى أن القصة بدأت باستهلال سرديّ بارع يرشح بما يتبوّؤه (أبو العزّ) من أهميّة استثنائيّة في المجتمع التّخيُّليّ الذي تشكله القصة، ويشِي هذا الاستهلال بأنّه الصّوت السّرديّ المُجلجِل الذي يطغى على باقي الأصوات، ويُحفِّز الحلقات السّرديّة على الاندياح والإشعاع، لافتاً إلى أن القصة انتهت بخفوت صوت (أبي العزّ) وخروجه مهزوماً من حيّز القصة مسلِّما رايته لـ (الرّاوي المشارك) بعد أن باء بغضب الله، وطُرِد من رحمته، واستحقَّ أن يُمسَخ
إلى (جقل) من جرّاء ارتكابه عدداً من المعاصي والانتهاكات التي أخرجته من (فضاء الدّنيا الشّاسع) إلى (عالم الآخرة الضّيّق)، خاسراً ما جنته يداه من أموال طائلة وأطيان وقصور وشهرة مدوّية.
ومع إنّ صوت (أبي العز) – يضيف الحسين- يبدو مُهيمِناً على الفضاء الاجتماعيّ الذي تُوهِم به القصّة، وصوت الرّاوي المشارك يبدو خافِتاً ولا أثر له في هذا الفضاء، إلا أنّ الصراع بين الصّوتين بقي قائماً في المتن الحكائيّ، وظلّ كلاهما يسعى لاحتلال هذا الفضاء والهيمنة عليه بوصفه الصّوتَ الأوحد الجدير بالتّسيُّد والهيمنة.
ولفت إلى أنّ القصّة تُتابِع صعود (شخص مغمور) من القاع الاجتماعيّ وصولاً إلى سُدّة الهرم، وتُلاحِق مسوِّغات تحوُّله إلى غول ووحش كاسر ومهيمِن، وهي تؤكِّد بقاءه حتّى بعد الموت مُتّخِذاً هيئة حيوان عُرِف بقدرته على التّلوّن والتّخلُّص من المآزق الصّعبة، في إشارة دالّة إلى أنّ موته الجسديّ المؤقّت لم يكن إيذاناً بتعطيل إمكانيّته على البقاء بل كان تأكيداً على قدرته على الاستمرار في تربة خصبة، ومالك صقور في تأكيده على ما أصاب (أبا العزّ) من تحوّل، وفي إشارته إلى الصّورة الجديدة التي اتّخذها يؤكِّد أنّ أمثال (أبي العزّ) باقون في حياتنا، وأنّهم نتاجٌ لظروف موضوعيّة وسياق مكانيّ وزمانيّ محدَّد، وسيكون من الطّبيعيّ أن يستمرّوا في الظّهور ما بقي السّياق محتفظاً بالسّمات نفسها التي تسمح باستنباتهم واستنبات أمثالهم في تربتها بشكل دائم.