تجربة الشاعر محمود حبيب في ميزان ناقدين
طرطوس- ثناء عليان:
أخلص محمود حبيب للشعر، فلم يكتب غيره من فنون الإبداع، وصدر له خمس مجموعات شعرية فكانت البداية من “الرحيل في ذاكرة التراب” لينتقل “من حديقة تشرين”، “للحب والوطن”، وليكنب على “حصاد السنين العجاف”، و “من كرومك خمرتي”.. شارك بالعديد من المهرجانات الشعرية داخل وخارج سورية، ونال العديد من الجوائز.
لهذا الشاعر أقام المركز الثقافي في طرطوس ندوة شارك فيها الدكتور أسامة ميهوب والدكتور محمد علي.. فكانت البداية مع الدكتور أسامة ميهوب عميد كلية الآداب في جامعة طرطوس حيث تحدث عن بدايات التجربة الشعرية المتجذرة والغنية من حيث الشكل والمضمون، وتنوع نتاجه الإبداعي بين القافية والتفعيلة، والتحرر من القافية مع المحافظة على الأصالة الأدبية، مبيناً أن البدايات غالباً ما تكون أكثر تعبيراً عن قلق الشاعر وعن وقوفه على مفترق الطرق، مؤكداً ان الشاعر لا يكتب في الفراغ وإنما تجربته تكون محكومة ومكتنفة بتجربة شعرية كبرى لها معالمها وخطوطها على تنوعها، ومهما كان صوت الشاعر متفرداً ومهما كان الشاعر متميزاً فأنه لا بد أن يكون لشعره صدى للظروف الثقافية والابداعية التي تكتنفه.
وفيما يخص مضمون قصائده أشار ميهوب: إلى ميل الشاعر حبيب لما يعرف بقصيدة النبوءة، ففي قصائده الوصايا الضائعة يأخذ صفة المنبئ، بل يعود ويكسبها للريح، “فالريح هي التي ستخبرني عنكم”، مبيناً أن الشعر الذي يتخذ صفة الرؤية والنبوءة هو نمط جديد في الشعر العربي أيضاً، بالإضافة إلى أنه نحى إلى الانكماش في القضايا الاجتماعية، والتمرد على الأمراض الاجتماعية التي كانت سائدة وماتزال بعض ذيولها، إضافة إلى ميله لإدخال القصص الشعبية أو التجربة الحياتية في بيان آرائه، مؤكداً أن الشاعر حبيب كان واضحاً في كل مراحل تجربته، وحاول أن يخلق شخصية شعرية توازن بين تمسكه بالتراث وبين تأثره بالتيارات الحداثوية التي تحيط به، ولكنه نأى بنفسه عن القصيدة الغامضة محاولاً الالتقاء مع تيار قصيدة التفعيلة.
بدوره توقف الدكتور محمد علي في قراءته التي جاءت بعنوان “جماليات الأسلوب في شعر محمود حبيب” عند الملامح الجمالية في شعر حبيب، تبعاً لمرجعيات فلسفية ونقدية قاربت الجمال الأدبي من زوايا متعددة.. لافتاً إلى ان أفلاطون كان يرى أن الجمال الشعري مرتبطاً بالبعد الأخلاقي للفن، كما يرى أن العمل الفني يقوم على معرفة الحقيقة التي يريد الفنان أن يصورها، ومدى نجاحه في تصوير هذه الحقيقة، مشيراً إلى أن القيم الأخلاقية التي تشتمل عليها قصائد الشاعر كثيرة ومتعددة، فهو يسوق لنا إيمانه بالأخلاق سبيلاً ومنهجاً في الحياة على حوامل أسلوبية تدعو إلى الفضيلة من دون أن يبدو بمظهر الواعظ المرشد، وإنما يتزيا بزي الأديب الشاعر الذي ينشد التأثير الجمالي في المتلقي، وما يتبع ذلك من إدراك ووعي بمظاهر الواقع وتناقضاته.
ومَنْ تَجرَّعَ حُبّ الصدقِ من صغرٍ
فليسَ عن شمِّ ريّاهُ بمنفطمِ
وفي مقاربة الشاعر للقضايا الوطنية –يضيف د.علي- يشعر القارئ بوهج الحقيقة يلفح وجدانه وهو يعاين وقوف الشاعر على قضايا الوطن من موقع الانتماء الصادق، إذ يوشّي الشاعر قصائده بنبرة حماسية ترقى بمستوى التواصل الجمالي بين القارئ والنص، وإن اعتراها في بعض الأحيان شيء من التقريرية الخطابية، ولكن الشاعر لا يلبث أن يخرج من هذه التقريرية نحو فضاءات التراث، ليسترفد منه قيماً تحفيزية يشحن بها نصوصه.. وبيّن أن الشاعر استطاع في معظم الأحيان ضبط استعلاء الأيديولوجيا على الرؤية الفنية، وإن كانت قصائده لا تخلو من نسق أيديولوجي يهيمن على مضمونها، لكنه يشفع هذا النسق بنسق فني جمالي تتزين به قصائده، وقد استعان الشاعر في قصائده بالمعطيات الحسية المحيطة بنا، ولكنه يستخدمها بوصفها معابر إلى العقليات التي يريد التعبير عنها، فالجمال عند هيجل هو التمثّل الحسي للفكرة، والأفكار المجردة تغدو أقرب إلى الأذهان إذا ما سيقت على حامل حسي، فيحدث ما يمكن أن نسميه الفهم الجمالي للأفكار.
للسنديانِ طقوسه… وصلاته
حبُّ الترابِ، وعزّة الإشراقِ
شاعرنا –يضيف د.علي- ابن بيئته التي يعبّر عنها، يرصدها بعين المحب الحالم الذي يبحث عن صفات الكمال في محبوبه، وصحيح أنه ينطلق من ذاته في معاينة الواقع، لكن هذه الذات ليست انطوائية منعزلة، وإنما هي ذات تعي ارتباطها بالواقع، وتعبّر عنه فنياً وجمالياً.
ويا بلاداً بأحزاني معمّدةً
رُشّي شذاك على قلبي ليرتاحا
سقيتُ بستانك الظمآن من عرقي
وقد نسجتُ لكِ الإخلاص أوشاحا
أنا المعلم أعطى البحرَ زرقته
فما ابتللتُ، وغيري كان سبّاحا
واختتم الدكتور محمد علي مؤكداً أن الشاعر محمود حبيب يستحق وقفة نقدية أطول من هذه، نحاور فيها لغته السامقة، وصوره الغنية، وإيقاعه الرشيق.