حسن حميد يُكثف حكاية وطن في “شارع خاتون خانم”
تشرين- راوية زاهر:
تقوم رواية (شارع خاتون خانم) للأديب حسن حميد، والصادرة عن دار دلمون بدمشق على مجموعة من الأحداث المتصلة والمتتابعة زمنيّاً أو سببياً وفق هيكلية عامة يقوم عليها المتن الحكائي.. فالأحداث غلب عليها مراعاة التسلسل الزّمني في نظام ظهورها وكذلك صيغة الراوي المستعملة والروابط الناشئة بين الشخصيات وطرق تقديمها.. وقد تمثلت شخصيات رواية شارع خاتون خانم بـ(عصمان أفندي) الشخصية النامية والمتطورة مع الأحداث وبطل الرواية هنا، طالب الجامعة، الفقير، وصاحب الحظوة عند خاتون التي بدّلت سيرة حياته، كعاشقٍ أبدي لها، وهو أيضاً صاحب الحظ السيئ مع أصحاب الأقلام السوداء، سافر إلى الكويت، ثم عاد، وأنشأ ثروة بفعل حنكته وذكائه وطموحه، تزوج خاتون خانم، وأحرقهما (الربيع العربي)، كان صاحب شخصية مؤثرة على من حوله.. و(خاتون خانم) شخصية رئيسة مرتبطة بعصمان أفندي، صاحب النفوذ والجمال، والهاربة من ظلم ذكوري أحال حياتها إلى جحيم.. لتلتقي عصمان وتتبدل الأحوال، لها تأثير أيضاً على من حولها كسيّدة أعمال في ورشة خياطة ودورها الإيجابي مع أصدقائها كنجمة وغيرها.
أما (حمدي الركبان) فشخصية ثابتة قائمة على حقد دفين تنتظر فرصة الانقضاض، وهذا ما أبقانا متيقظين له على طوال مسرح السرد الروائي، غامضة، تثير القلق، لكنها جذابة ولحكاياتها مع الأمكنة ومغامراتها فصول من السرد وفيضٌ من الترقب والترف الوصفي.. كما جاءت الشخصيات الثانوية مؤثرة ومتطورة ولها دور على مسرح الحدث كـ :(العجوز رشيدة) و(كندة) الجميلة الفقيرة بائعة القهوة، وغيرها من الشخصيات التي كان حضورها المفاجئ على الرغم من ازدراء مكانةِ بعضها وذلك بسبب اعتلائها ركب “الثورة” لتصير الحياة المتمثلة بشارع خاتون خانم مقلوبة رأساً على عقب، حيث لكلّ رأيه الذي لم يكن ليتجاوز عبارة تنادي ببيع بيضة أو حليب طازج.
قامت الرواية على عنصر المكان وقد تنوّع بين مفتوح ومغلق.. فالمكان المفتوح تمثّل في شارع خاتون، هذا المكان الذي شكّل مسرحاً لأحداث الرواية وتداخل شخصياتها، إذ يعدّ المكان أحد عناصر العمل السردي والذي يساهم في تشكيل وتنظيم أركانه وربط أجزائه وتماسكها مع بعضها بشخصيات متداخلة ومتزاحمة، تجارية، غرامية، وذات أبعاد فكرية متباينة ومتناقضة، وكان للمرأة حضورها النفسي والجسدي في المكان، ما بين الهاربة من ظلم الزوج والمحرومة الولد، والمطلقة، ونساء المحطة الغارقات في شهوة أجسادهن وشقوة الأيام.. أما الأماكن المغلقة فقد تجلّت في (مقهى حنوش، المحطة، والمنازل المغلقة) والتي عكست مسارات تشكُّل الشخصيات وأحداث الرواية.. فقد حمل المقهى بروّاده بعداً نفسياً وتحوّل فيما بعد إلى مكانٍ يثير قضايا السياسة، وهكذا التمسنا كيف يتحول المكان إلى محفّز سرديّ للشخصيات أولاً والحدث ثانياً.
فبداية في مقهى (حنوش) كان مكان لسرد مغامرات حمدي الركبان النسائية.. والمحطة مكان مغلق من حيث العتمة والسياج والفكرة والشكل، ومفتوح من حيث الفضاء الشارد مع العدم والنزوات.. وقد حمل هذا المكان بعداً نفسياً وجسدياً، فطاف فيه حمدي الركبان في عالمٍ سردي خاص، يقوم على جمله الخبرية والأفعال الماضية، وتزاحم الفصول الدرامية الجسدية المشوقة، وقد كان لهذه الأماكن أثرها البالغ في الكشف عن خفايا الشخصية ومكبوتات النفس عند حمدي الركبان.
جاء منهج الرواية وصفي تحليلي وسردي يقوم على الإخبار والصور والأفعال الماضية.. ومرجعيات الرواية تعود إلى تجربة الكاتب، وثقافته، وربما تجارب الآخرين، والحقبة الزمنية والحدث التاريخي الأبرز لما قبل دمار سنة 2011 في العالم العربي.
كما نوّع الكاتب في طريقة عرضه لشخصيات الرواية، فتارة يستخدم الطريقة المباشرة التحليلية، إذ يلجأ إلى رسم الشخصيات مستخدماً صيغة الغائب التي تتيح التغلغل في أعماق الشخصية وصفاتها النفسية وملامحها.. ومثال ذلك جاء على لسان عصمان أفندي في وصف حمدي الركبان بائع السمك: “كان مديد القامة، مرجل الشعر الذهبي، تاركاً غرّته تتهدّل نحو جبهته حتى تكاد تغطي عينيه، أمّا لباسه الكتّاني فكان يعطيه مهابة تشبه مهابة الجنود، ما يجعله بعيداً عن مهنته كبائع سمك.”.
أمّا الطريقة الثانية فكانت غير المباشرة التمثيلية؛ وذلك عندما تحدّث عصمان أفندي عن نفسه، إذ ترك الشخصية تعبّر عن نفسها بنفسها مستعملاً ضمير المتكلم، فتكشف أبعادها العامة أمام القارئ بصورة تدريجية عبر أحاديثها وتصرفاتها وانفعالاتها مثالها: “عندما عدتُ إلى وعيي، كانت يدٌ قاسية تشدّني إلى الأعلى كي أنهض، لم أسأل صاحبها ماذا يريد! بل سألتُ أين خاتون خانم؟”.
أما الحوار فغلب عليه المباشر بين الشخصيات ليخدم الحدث كالحوارات المطولة بين خاتون خانم وعصمان أفندي التي تشي بحبٍو عميق شفيف بين الطرفين.. وكذلك حوارات حمدي الركبان وعصمان أفندي التي كشفت بعض الغموض في شخصية حمدي.. وكذلك الأحاديث بين كندة وعصمان أفندي، التي أفرزت تصويراً لوضع كندة الاجتماعي والنفسي.. والكثير من الحوارات غيرها بين شخصيات الرواية.
أما الصراع المعلن فقد بدا بين بعض شخصيات الرواية وأصحاب الأقلام السوداء من جهة، وبين طرفي صراع أفرزته الرواية أدى إلى حرب طاحنة سحقت الجميع من دون رحمة.. فيما ظهرت أنساق الزمن الروائي بشكلٍ صاعد، إذ بدأ مع خاتون الفارّة من ظلم زوجها العاجز جنسياً وتعذيبه السّادي لها وصولاً إلى العائلة التي حوتها في شارع خاتون، وعشقها لعصمان الذي استمر حتى نهاية الرواية، فبقيت النهاية مفتوحة حول مصير عاشقين جمعهما خريف العمر وفرّق بينهما “الربيع العربي”.
ومن التقنيات المستخدمة في الرواية أيضاً تقنية الحذف والإسقاط والقفز، وذلك من خلال عبارات تدل على طي السنين من دون التحدث عن تفاصيل مثال ذلك قول عصمان أفندي: “كنتُ قد عدتُ من الكويت بعد أن أمضيتُ هناك عشرين سنة.”