محمد عُضيمة

“لا شيء لكم عندي‏

أبداً‏ لا شيء،‏

إذا ما قرأت قصائدكم‏ بالمقلوب‏

كما يرتدي الأطفال ثيابهم‏

أو‏

صنادلهم بالمقلوب..‏”

الهجرة من مكانٍ لآخر للشاعر محمد عُضيمة، كان لها هجرة مماثلة في شكل الكتابة، إذ تطغى الأماكن: دمشق، باريس، الجزائر، وهران، وطوكيو، ولكلِّ مكانٍ مفاتيحه الخاصة، وجدرانه الخاصة.. وهو لا يسعى أبداَ إلى توحيدها، لذا تتعدد نصوصه، ولا يأسره شكلٌ واحد للقصيدة، ومجموعاته الشعرية التي ربما تجاوزت العشر، دليل على ذلك..

ما يميّز تجربة صاحب “الشعراء يلتقطون الحصى” الشعرية والنقدية، هي جرأته في اختيار اللغة واستعمالها، والخوض فيها دون خوف، يكتب ليحرر نفسه أولاً وأخيراً، من سيطرة الذهنية، ولتحرير الحواس التي كانت تعمل لمصلحتها، ومن فحولات اللغة، وجزالة العبارة و”عظمة” الأفكار..!

فهو يرى أن اللغة  ولاسيما العربية، ولتداخلها مع العامية، وانفصالها في آن ك”زحليطة” تورط  صاحبها بمسائل لا تنتهي، ويعتقد أن كتابة الشعر بالعربية اليوم، وإنتاج نص مغاير جديد، وحديث، أصعب منه في أي لغة أخرى، والسبب بتقديره: تراكم خبرة هذه اللغة شعرياً على امتداد أكثر من خمسة عشر قرناً، ولاتزال مستمرة بالزخم نفسه، وبالقيم نفسها تقريباً.. وإن جرداً بسيطاً لعناوين المجموعات الشعرية الصادرة منذ منتصف القرن الماضي إلى اليوم، فسنجد العناوين فقط ستحيلنا إلى كآبة وسوداوية، إنها شعرية القنوط، اليأس، التأفف، التبرم، ومن وجهة نظره، هي شعرية الهروب على أجنحة الذهنية، وإغماض العين، إنها شعرية الماضي، بثياب غير موزونة، لذلك هو يؤكد أن حداثتنا الشعرية محض وهم..!

عضيمة شاعر يعرف أن كل مايحيط به، وبلا استثناء مليءٌ بالشعر، ويمكن تحويله إلى لغة، وهي تجربة لا تخلو من الصعوبة، لذا كان إلحاحه على الحواس، كنافذة للوصول إلى الشعر، وذلك بالمعايشة والتجربة، لأنه قد تكون الحياة المعيشة أكثر شعرية من الكتابة عنها، من هنا كان شعره، لا يأتي من مكانٍ غرائبي، وفي مفرداته المحسوسة والمرئية، واستعمال الأشياء ليس أمراً سهلاً، لذا كان عليه هدم الأسوار، التي تحول دون ذلك، ليرى الأشياء في براءتها، ولطفها، وحيادها.. ومن ثمّ فقصيدته، يكفيها شيءٌ من التخييل والوزن الخفيفين، أما أن تكون القصيدة من ألفها إلى يائها كتلة متراصة من الصور الذهنية التي لا علاقة لها بخبرة بشرية ولا نباتية ولا حيوانية، وكتلة متراصة من الإيقاعات الصاخبة كأنك في ديسكو تديره الطبول، فهذا ما جعله يقف على النقيض..

وهذا ما دفع صاحب “شارع الألبسة الجاهزة” ومنذ بداية التسعينيات لإعادة النظر في كل ما كتب سابقاً ليقول ويعيش على ضوء تفعيل الحواس الخمس التي كانت معطلة بفعل التربية الذهنية، أي إعطاء الأهمية للفكرة على حساب الواقع، أو إلغاء الأخيرة بتجاهلها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار