“مهاة فرح الخوري” عاشقة الكلمة والسلام… وداعاً
دمشق- رنا بغدان:
تودع دمشق اليوم في “مريمية الشام” قامة وطنية وإنسانية وأدبية كان لها الدور البارز في نقل صورة المرأة السورية المشرِّفة والمشرقة إلى شتى المحافل العالمية.. تودع دمشق “مهاتها_ شمسها” التي حملت الحب والسلام والأخوّة والصدق والوفاء والمحبة والدفء في قلبها الدمشقي لتنثره بين الناس مدركة أن “العطاء مغبوط أكثر من الأخذ” وأن “الحب أقوى من الموت”.
نشأتها وثقافتها
حملت مهاة وطنها في قلبها أينما حلت فهي عربية الهوى دمشقية الفؤاد الذي كان ينبض حباً بدمشق التي وصفتها يوماً بأنها “ملحمة الملاحم وأسطورة الأساطير ومعشوقة العشاق وجوهرة الجواهر وآية الآيات”, فقد ولدت عام (1930)م، في بيت دمشقي عريق يقع خلف سور دمشق في حي القيمرية من المدينة العتيقة، وكان قريباً من المدرسة التي كان يعمل فيها والدها الذي تأثرت به كثيراً ومشت على خطاه بالعلم واللغة والأدب، وعلى خطا والدتها التي وهبها الله ذاكرة قوية فحفظت الشعر وروته، وعلى خطا زوجها وديع نعمة الخوري الذي ساعدها في شق طريقها في عالمي الثقافة والأدب، وكان يشغل عدة مناصب وقد نال وسام الاستحقاق السوري وغيره من الأوسمة العربية وكرمته دمشق بتسمية أحد شوارعها على اسمه وقد رزقهما الله بولدين إياس ونعمة وابنة اسمها نور.
لم تحمل مهاة شهادات عليا فقد تركت الجامعة بعد سنة دراسية في (الثقافة العامة) ولكن كان منزل والدها هو المنهل الأساس الذي تعلمت فيه الثقافة والأدب واللغات ومن ثم منزل زوجها، فقد نشأت في جو مملوء بالثقافة والعلم وحب اللغة فوالدها الأستاذ ميشيل فرح (أبو زهير).. كان مدرّساً للغة العربية وكان يُعرف بالالتزام والدقة والإخلاص في العمل وكان أديباً وكاتباً يرى من خلالها استمراريته وكانت ترافقه دائماً في جلساته الأدبية ولقاءاته وأماسيه وسهراته التي تعج بكبار رجال الأدب والفكر والأدب، إضافة إلى “سيران جوبر” الأسبوعي كل يوم جمعة مع الدكتور جميل صليبا والدكتور أنطون جناوي، وأنطون دياب والذي ذكرته في كتابها (د.جميل صليبا)، وقد رزقه الله أربعة أولاد ثلاث بنات وصبياً وحيداً وكان يردد:
أمـــةٌ زهــيـــــرٌ هــالــةٌ ومهـــــاةُ
صـــدقٌ أنـــاةٌ غبطــةٌ حـركـاتُ
حوار وقضية
عُرفت مهاة بنشاطاتها ومشاركاتها في مجال الحوار الإسلامي- المسيحي ولعبت دوراً مهماً في إرساء قواعد العيش المشترك بين أبناء الشعب السوري وتعزيز الوحدة الوطنية السورية في مجتمع متناغم ومتجانس ومنفتح، وكان لرمضان المبارك مكانة خاصة في نفسها وذاكرتها، في حين احتلت “قضية القدس” فؤادها وشحذت أفكارها بأحداثها الدامية، فصورت هذه المأساة وسطرتها في مؤلفات عديدة، وكانت تقول عن القدس بأنها “مدينة صاغتها أديان السماء”، وقد نمت عاطفتها نحو بلدها الثاني فلسطين وعاصمتها الثانية القدس، وعلى مدى الأيام ارتبطت بهذه القضية عاطفياً، خاصة عندما كُلفت عام 1973م بترجمة ملف «القدس القضية» للعلامة المؤلف البحاثة الأب- يواكيم مبارك والذي جُددت طباعته عام 1996م، كما قامت بتحقيق وتدقيق كتاب «مسلمون ومسيحيون من أجل القدس»، وكانت هديتها للقدس بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية عام 2009م كتاب «لأجلك ياقدس» والتي قالت فيه “ألا تستحق عاصمة الإسراء والمعراج والشهادة تحية إكبار وإجلال وهدية متواضعة توجز ما اختزنه القلب وتبناه الفكر”.. عدا عن المحاضرات والندوات والمداخلات التي ألقتها..
تكريم وأوسمة
مُنحت مهاة العديد من الأوسمة والشهادات والدروع والميداليات وكان لها شرف التكريم على أكثر من مستوى فقد أحبت العطاء دون مقابل، وجميع الأعمال التي أدتها كانت أعمالاً غيرية وليست شخصية، تخص الوطن والمدارس من علم ومعرفة واعتبرت نفسها إنسانة خادمة للكلمة وللإنسان، وكانت ضمن بعض الجمعيات الأهلية والرسمية تخدم وتساعد وتقدم مجسدة إيمانها أفعالاً في العطاء وخدمة الوطن والإنسان.
وكانت تفتخر وتعتز بكل تكريم نالته، فقد كان لها شرف الالتقاء بشخصيات كبيرة ورؤساء دول كثيرة نذكر منهم الرئيس المؤسس حافظ الأسد والرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقداسة البابا يوحنا بولس الثاني، كذلك كرمتها السيدة الأولى أسماء الأسد بتقليدها ميدالية عبارة عن مخمسة ذهبية نقشت عليها (الجنة تحت أقدام الأمهات)، وكرّمها اتحاد الكتاب العرب، وكرّمها مجمع اللغة العربية بتكليفها بتأليف كتاب «الدكتور جميل صليبا رائد الفلسفة العربية المعاصرة» وهو أحدث كتبها الذي ألّفته وهي خارج سورية، كما تمّ تكليفها من قبل المثلث الرحمات البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم بتأسيس وإدارة مكتبة العائلة في دمشق منذ عام (1980م) وحتى عام (1997م)، كما تمّ تكريمها في العديد من الدول منها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وقبرص والهند وبولونيا ومنحتها الحكومة الفرنسية وسام السعف «الأكاديمي» بدرجة فارس..
في الوداع
كانت مهاة تصدر أعمالها من قلبها إلى فكرها حاملة المحبة والاحترام للآخر.. تسبق دمعتها الصادقة لسانها الأصدق متأثرة بكل ردة فعل من مجتمع بل عالم رد لها الجميل عرفاناً وتكريماً، كيف لا وهي المربية والأديبة والمترجمة التي أغنت المكتبة العربية والعالمية وعلى مدى أكثر من نصف قرن من الزمان بمؤلفاتها وترجماتها ومحاضراتها وتعلي شأن المرأة السورية إضافة إلى اهتمامها بقضايا الطفل وعالمه، وهي المرأة السورية الوحيدة التي تحمل شهادة “ترجمان محلف” تترجم ما فاضت به نفسها من همّ وطني وقومي وإنساني في أعمالها لتبقى على الدوام “مهاة فرح الخوري” عاشقة الكلمة والسلام.
نعم إنها “مهاة فرح الخوري” الإنسانة التي أحبت وخدمت وأعطت فوداعاً أيتها الـ”مهاة”, وداعاً أيتها الإنسانة النبيلة والأصيلة، وداعاً أيتها الأم والأخت والصديقة والجارة الوفية، كنتِ أمينة على القليل وسيقيمك الرب على الكثير فادخلي إلى فرح ربك وليكن ذكرك مؤبداً..