الطفولة كمنقذ من الضّلال
تشرين- إدريس هاني:
أن تكون طفلاً بيولوجياً، هذا معطى طبيعي، أن تحافظ على ماهية طفولتك، وتكتشف أن الحركة الجوهرية للنفس لا تلغي الطفولة، بل تكثّفها، فهذا نتيجة صمود، ثمة موانع عن ذلك، حيث الطّفولة ليست من جنس الطَّفالة- الثّباتية، لأنّ الطفولة كقيمة أنطولوجية تنحفظ في سائر أطوار النّموّ، وهي ليست حالة ثباتية، بل هي انطلاق كوني، ثمة شيء لم يهتم به التحليل النفسي، الذي جعل الطفولة مكنزاً لتاريخ العقد الأولى التي ترتهن لها الشخصية إلى الأبد، هناك هروب من الطفولة نابع من مرض الشيخوخة السيكولوجية المبكرة، إذ الهروب من الطفولة هو اندماج في شروط الرُّشد المزيّف.
تبدو الطفولة كقيمة نضالية، وهي تتطلّب شجاعة أنطولوجية، لأنّها كفاح ضدّ الرّشد المزيّف، ولأنها صمود في وجه التضليل البيولوجي لنكبة الطفولة، لأنّ الطفولة نُضج، والمتلقي في هذه اللحظة هو أكثر يقظة واستيعاباً للجديد، وهي خاصية يفقدها الكبار البيولوجيون.
إنّ الحاجة إلى لعبة التحدّي والاكتشاف والعلم والصمود والشعور الدافق بجمالية الوجود، هي بواعث الطفولة العظمى التي تواجه تضليل البيولوجيا وفساد التربية. إنّ التربية كتنشئة وتكوين، تجعل من الطفولة خصماً استراتيجياً، وتضع غاية تضليلية، هي أنّك يجب أن تتجاوز قدر الطفولة البيولوجية بأقل الأضرار والحوادث، هذا هو أكبر قمع استراتيجي مسؤول عن انحطاط النوع البشري، لأنّ نسيان الوجود بالمعنى الهيدغيري، هو في تجليه الأعظم، نسيان الطفولة. وإنّني لا زلت أتساءل كيف غاب الطّفل عن إشكالية الدازاين، الذي يحدد لنا سقف انهمامنا الأنطولوجي؟ فمن افتقد حاسّة الوجود الدّافق في الطفولة، لن يكتشفها في أرذل العُمر.
إنّني أكتشف عدوّي في هذا الانهيار الأنطولوجي العظيم، حيث فقدان الطفولة يفتح العالم لأخطر صنوف الجريمة. الجوهر يتطور وينحفظ ولا يُعدم، والعدمية الطفولية هي أصل شرور العالم. ثمة انقلاب في الماهيات، وهذا لا يعني أن النوع سيرتدّ إلى حيوانيته، بل سيكون أضل من ذلك، سيخدع نفسه بماهية مزيفة، بلا جوهر طفولي، فقط باستيهامات بيولوجية تفجّر قلقاً عارماً: قلق فقدان الطفولة، طفولة الإنسان هي الأطول مدى من بين سائر الكائنات، لأنّها بُعد وليست مرحلة.
يتكاثر النوع البشري، وهو يعتبر نفسه قد تعالى على الطفولة البيولوجية، لا يوجد نسيان أكثر من ذلك، هو يرى في الطفل شيئا فقده، هنا تبدأ حكاية إعادة الإنتاج، هنا يشعر الكبير-البيولوجي بأنّه مجرّد خادم ديكتاتوري عند طفل أمير، يملك كلّ الذكاء الطبيعي لتحويل عالم الكبار إلى خَدَم مِطواع، وقد اهتدت الرأسمالية لهذا الذُّهان، فحوّلت خطابها الإشهاري للطّفل باعتباره مؤثراً، ومعنياً بالإقناع والاقتناع. إنّهم يقودون الكبار إلى السوبرماركت صاغرين، لتحقيق رغبات طفل هو من يهيمن على العالم.
لا يمكن أن يتقدّم العلم بذهنية تعيش هذا الاختلال الأنطولوجي، نتائج العلم حتى الآن تحمل سمات الشيخوخة المبكرة، أي فوبيا الاكتشاف، ضمور الفضول الوقّاد، التردد، العبودية الفائقة للنموذج.. إنّ العلم يتطلّب قدراً كبيراً من اليقظة، والفضول و”التّطفُّل”، المُثقف نفسه كائن طفولي متطفِّل، ففي نهاية المطاف، الأطفال هم الكبار، بينما الكبار هم الصغار الأطفال وحدهم يتأمّلون العالم، الكبار غارقون في التّفاصيل والتكرار، نظرة طفل للشروق ليست هي نظرة الكبار.
وأتساءل: لماذا يسخر الكبير-البيولوجي من الطفولة، مع أنّه افتقدها أو لم يبلغ تحقُّقَها؟
حينما كنت أصادف كبيراً-بيولوجياً، ونتحاور حوار الصغير مع الكبير، أشعر بالجفاف، كيف لا يحترم الكبير-البيولوجي كبريائي الطفولي؟ كان أوّل انطباع هو أنّ هذا كائن حلزوني، يمنحني الخيال كل أدوات تحليل وتشخيص هذا الورم البيولوجي. وحين يستعمل مغالطة الكبير-البيولوجي، أزداد بصيرة في ضعفه، وأقول في نفسي: دعني أكبر لأكشف لك أنّك مجرد حلزون. كان لي كُنّاش صغير أحصي فيه أسماء الكبار-البيولوجيين الذين سخرت منهم وسأنتقم منهم يوم تستوي الأكتاف. وبعدها مزّقته، لأنّني بدأت أشفق من هذا التردي الأنطولوجي.
والآن، ليس لي طريقة أمثل من أن أستعمل منهجاً في التحليل والتشخيص للنّوع، أتخيّل الكائن طفلاً، ثم أتساءل: أي صنف هو؟ وكثيرا ما يسعفني حدسي لأعرف النتيجة من خلال السفر في زمنهم عبر منهجية تطفيل الحالة. قل لي أي طفل أنت، أقل لك من تكون، دخلت مرة عند طبيب بمعية صديق، قال لي: أنت في حالة استعجالية، واليوم عطلة، سأهاتف طبيب أطفالي لعله على الأقل يساعدك. ولما دخلنا الإكلينيك، أخبرني الطبيب بأنه اختصاص أطفال، فقلت له: إنّني لم أفهم، لكن اعتبرني طفلاً كبيراً، وتابع معي، هل للأطفال أعضاء ناقصة، أنا لا أرى فارقاً، رجاء لا تتعامل معي بخبرة الطب العام بل باختصاص طب الأطفال. يبدو أنه التقط الإشارة وخرق القاعدة ووصف لي دواء فعّالا، قال: فقط الاختلاف في “الدوزاج”، قلت: هذا صحيح، ألم أقل إنني طفل كبير..
إنّ معظم حالات الشلل النفسي لدى الكبار-البيولوجيين، ناتجة عن خلل في كمال الطفولة، لأنّ الطفولة ليست بداية، بل هي استعداد وأرضية للنموّ، إنّ الوجود أصيل ليست فكرة التقطتها من الحكمة المتعالية جُزافاً، بل لأنّها حرّكت في أحاسيس الطّفولة، إنّ هذه الحقيقة مُحسّة، الوجود دافق، غامر، خير محض، الطفولة تدرك الوجود من دون كوجيطو. الكوجيطو وُجد لإقناع الكبار – البيولوجيين، الأطفال يسخرون من الكوجيطو، وهم لا يشعرون بالفقر الوجودي، الكوجيطو هو توثيق للشيخوخة المبكّرة للحداثة.
من فقد طفولته، فقد الابتهاج، وها هي الحداثة أزرمت الابتهاج ونزعته من جذوره، وكان ذلك هو التدشين لعهد الشيخوخة المبكرة، حيث إن كان لا بدّ من إعادة إنتاج الحداثة، فذلك باستعادة الابتهاج بكيفية أخرى، فأساطيرنا ليست بالضرورة كأساطير من مضى، ولكن تقويض الخيال، هو أزمة الحداثة. إنّ سلطة الإطار المعرفي هي حرب على الخيال، على الدّماغ، على الطفولة، على المحتمل.
تمنح الأمم المتحدة سقفا للطفولة هو 18 سنة، بعدها بخمس دقائق، تصبح الطفولة حكاية ماضي تصرّم. ثم تبدأ ملحمة التّحكم البيولوجي في الأنطولوجي، تبدأ النكسة الأنطولوجية.
هذا في الوقت الذي معظم فلاسفة الفكر الإنساني وضعوا أسس قناعاتهم في هذا السن أو أقل أو أكثر قليلاً، فالأطفال هم من يفكّر، والباقي تفاصيل أعمال ما يسمى بالنضج، هو استكمال لمشوار دشنته الطفولة، العصر السيبراني دشّنه أطفال عبثوا بالتكنولوجيا بشجاعة الطفولة، وسَّعُوا من مدارك الوجود ليحتوي الافتراضي، ثم منحوا الطفولة سلطة تقاسم العالم، جعلوا من الواقع هامشا للافتراضي.
من الأفضل أن تتم النسبة الفلسفية (لغويّاً) إلى ابن طفيل وليس لابن رشد. إن دَخَلْتَ الفلسفة راشداً ضللت، إن دخلتها طفلاً أو ابن طفل أو حتى طفيل، اهتدت، وكذلك كان، من هاموا حول النّضج ومنه بدؤوا، سقطوا في وهم كبير. حين طُلِب من ابن طفيل أن يضع للحاكم شروحاً على الفلسفة اليونانية، قدّم ابن “رشد” لهذه المهمة البيداغوجية. حين يرشدون يمكنهم حينئذ أن يُتِمُّوا المشوار مع ابن “طفيل”.
ما لم تغير البشرية من تقاليدها في التنشئة الاجتماعية والتكوين، فسوف تتورّم فيها بنية الجهل المُقنّع، ستكثر الجريمة الموصوفة في حقّ النوع نفسه.
إنّهم مجرمون، إنهم منافقون، إنهم جبناء، إنّهم حاقدون، إنهم سطحيون…وكل ذلك لسبب بسيط، أنّهم فقدوا عنوان الطِّفل الذي هو قوام ماهية النّوع.