محمد عيسى
“تعالَ يا صديقي
هل ترى هذه الصخرة؟
ستلقاني متكئاً عليها
وعندما يأتي القطار
لا تنس أن توقظني..
لأبدّل..
جهة الاتكاء.”
هكذا يعلن “أمير السفر”- كما عنون أولى قصائد مجموعته “شيءٌ ما”- حركة اتجاهاته “البعيدة”، لكن من المكان ذاته، أو قل إنه السفر والدوران في المكان ذاته..! هكذا سنحت الظروف، أو كانت هي المساحة التي قُيضت للشاعر السوري محمد عيسى ليقول “بيت قصيده”..!
ف” الليلُ غمدُ النهار، والمساء مقبضه
ولكن الفجر..
هو الطعنة التي تفاجئنا ونحن نيام .”
من هذا الحيز الضيق قدّمَ “شيءٌ ما” ذات حينٍ من عام 1992، وذات حينٍ أيضاً من سنة2002، قدم “مائدة البراري”، وبعد ذلك بحينٍ من الدهر سنة 2004، صنع “رتوش ما بعد العاصفة”، وهو في كلِّ هذه المجموعات الشعرية، كان يلوّن أشعاره، وينوّع عليها، وذلك في كلِّ ديوان من دواوينه، بحيث كان يمنع على التكرار من أن يتسلل ليصبغ المجموعات الثلاث بلونٍ واحد، وكأنها قصيدة واحدة بتنويعاتٍ مختلفة، كما حصل مع الكثيرين من الشعراء الذين كان همهم القذف بما يكتبون لأقرب مطبعة، لتسجيل أكبر عددٍ من المجموعات الصادرة، أو ما سماه عيسى “وعي النشر” عوضاً عن وعي الإبداع، وذلك للتسويق عنوةً من خلال المعارف والأصحاب. ومن ثم ليضع نفسه في حالة سباقٍ مع الكم، وهنا يأتي الإبداع حجماً لا نوعاً.
هذا الشاعر الذي اتسمت قصيدته بعلاماتٍ فارقة، جعلتها تأخذ خصوصيتها في المشهد الشعري المعاصر، قصيدة فتح لها الشاعر بابَ التأمل لتبني عمارتها الفلسفية والفكرية والجمالية، فناست بين القصيدة “الوثبة” كما أطلق عليها، تلك التي لا تقف إلا على صيدٍ.. تبدأ ببضع كلماتٍ تمهيدية مُحكمة ومكثفة لا تحتمل السرد ولا الفذلكة اللغوية، وهي ذات موضوعٍ واحد وفكرة وحيدة؛ عليها أن تأخذنا خطفاً بفكرة صادمة معرفياً يسوقها الشاعر خلسةً إلى أن تأتي لحظة الانقضاض والتوقف المُحكم على صيدٍ ثمين.. لأنّ غايتها في الخاتمة.. وبين متواليةٍ شعرية تحكي سفراً من حياة، أو من جغرافيا، أو مساحة ما، تأخذ القصيدة فستاناً لتزيّن تفاصيلها، تأتي كحكاية، أو كرواية قصيرة.. أي إن الشاعر عيسى بعكس أمير سفره، فالشاعر الذي تقمص ذات “الأمير” وخلال تبديله لجهة الاتكاء، وعندما يمرُّ القطار بجوار تلك الصخرة، كان يتريّث بعض الشيء.. يتأمل قليلاً.. ليكتب دفقه الشعري دفعةً واحدة، ومن دون توقف.. فكان له تجربة لا تزال تتصاعد في خطها البياني صوب أحلى الكلام وأعذبه.
” سأطلقُ ماعز القصيدة
أشمّرُ الريح عن ساقي
أسرحُ النهار بطوله
راكضاً خلف القطيع..
من تيس الصباح
إلى فحل المساء.”