بالتعاون بين دار دلمون والسفارة التشيلية بدمشق.. «غابرييلا ميسترال» بالعربية والآرامية
تشرين- لمى بدران:
ربما لم يسبق لأحد منّا أن تنفس وتأمل الطبيعة من خلال الكلمات والقصائد، إلّا أننا سنتنفسها ونشعر بالانتعاش والاتحاد مع الطبيعة بأشجارها وورودها وكل ما فيها من تفاصيل في كتاب “عن الطبيعة” للشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال الحائزة جائزة نوبل للآداب سنة ١٩٤٥، هذا الكتاب الذي جرى توقيعه أمس في مكتبة الأسد بدمشق، والذي صدر بالتعاون بين دار دلمون السورية للطباعة والنشر والسفارة التشيلية بدمشق؛ صدر مُترجماً إلى اللغتين الآرامية والعربية.
وهو عبارة عن تسع عشرة قصيدة وهي مختارات من شعر غابرييلا، ومن إعداد وتقديم الفيلسوف والدبلوماسي والقائم بأعمال السفارة التشيلية في سورية خوسيه باتريسيو بريكلي، الذي يرى أن عنوانه خيالي، ويوضّح أثناء كلمة له في حفل توقيع الكتاب: إنّه يشير إلى النّصوص الفلسفية اليونانية القديمة التي تمّ تعميدها من قبل اثنين من علماء اللغة الكلاسكيين، (ديلز وكرانز)، اللذين أعطيا شكلاً لنصوص مجزّأة ومتفرّقة، أما عن ترجمة الكتاب فيعتبر بريكلي أن المترجم السوري جورج زعرور والذي عرفه منذ ثلاث سنوات هو الرجل الذي ظهر في زمن الظلام كي يعمل على إتمام هذا العمل العظيم وترجمته إلى اللغة التي تحدّث وتكلم بها السيّد المسيح، وأقصد اللغة الآرامية.. وبناء على ذلك أكّد بريكلي أنهم سيقومون بإهداء نسخة من هذا الكتاب إلى كلِّ عائلة تتكلم اللغة الآرامية في سورية، وذلك في سبيل إغناء مكتباتهم تدريجياً بأعمال لمؤلفين معاصرين مترجمة إلى اللغة الآرامية.
بدوره ينتهز الباحث والمترجم جورج مخائيل زعرور ابن بلدة معلولا هذه المناسبة ليخاطب روح الشاعرة غابرييلا الراحلة جسداً منذ عام ١٩٥٧، ويقول وفاءً للؤلؤة الشعر العالمي غابرييلا ميسترال: يا سيدة الحب المصلوب على الأسوار.. يا سيدة الحلم الناعس في عيون الأطفال .. أحبك حين تغسلين هذا الشيب المنثور على وجه الشمس الطافح بالأحزان.. غابرييلا كلماتك.. أشواقك خميرة تُدسّ في رحم عجين الغربة.. فيكون وردة حبٍّ تنحني لتلّوح وجنتيها قبلات التنوّر.. وسلام لروحك وأنت تطلّين علينا من علياء سمائك فأنت النور الذي لا يخبو والحقيقة التي لا تزول… وتكمن أهمية ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الآرامية برأيه من خلال الربط بين الأصالة والمعاصرة في بناء اللبنات من طين الأرض الإنسانية، وليثبت للعالم أجمعه أن اللغة الآرامية حيّة تنبض في معلولا، لا بل هي في مصافّ اللغات الأخرى أدباً وشعراً ولديه الإمكانية من خلال عشرات المؤلفات أن يثبت ذلك..
“الطحلب المخملي
الطحلب الطفل والصغير جداً،
المتواضع الخفيض والسخين،
الطحلب لا يريدُ أن يكون عالياً
مثل الصنوبر، ولا أن يزهو بأغصان؛
هو يستريح، ويستريح، ويستريح
ويلوذُ مُعانداً بالصمت”.
إن الأناقة والبساطة الظاهرة على شكل الكتاب بلونه الزيتي والذي تقبع في منتصف غلافه لوحة تشكيلية تعبيرية للمهندس المعماري (ألبرتو كروز) ليس غريباً عن دار دلمون الجديدة للطباعة والنشر، ويشكّل أول بادرة للتبادل الثقافي بين الدار وبين الثقافة التشيلية، وتعتبر صاحبة الدار المهندسة عفراء هدبا أن ما بين سورية وتشيلي يتجاوز المسافات الشاسعة، ويختصر عوائق اللغة وفرادة الثقافة التي تميّز كلا البلدين، وبرأيها كلّما أوغلنا عمقاً في مفهوم الهوية والشخصية استطعنا أن نتلمّس الكثير من المشتركات النابعة من خصوصية المكان وجوهر الإنسان، فالتماهي مع الطبيعة والغوص في مفرداتها وفك رموزها لا بد سيقود إلى أسمى أشكال المعرفة وأرقى أدواتها، وحول ما يطالعنا عليه الكتاب “عن الطبيعة” تتساءل وتقول: وهناك ما يضاهي الكلمة المنطوقة جرساً ومعنى؟
“لنرقص في الأرض التشيلية
الأجمل من ليا وراكيل:
الأرض التي تكون الرجال
الشفاه البلا حقد
الأرض الأكثر خضرة من بساتين
الأرض الأكثر شقرةً من حصاد
الأرض الأكثر حمرةً من كروم
غبارها من خدودنا
ونهرها من ضحكتنا”
قد لا نستطيع أن نتخيل أن هذه الشاعرة التشيلية الفريدة التي اتُّهمتْ قبل أن تنال جائزة نوبل بالإساءة إلى المقدّسات وطُردَت من معهد كانت تُدرِّس فيه بسبب جملة كتبتها لإحدى الصحف شمال تشيلي وهي: “إلهي هو الطبيعة” وبالتأكيد منعت الرقابة هذا النص آنذاك من النشر، ولقد توفيت بعمر سبعة وستين عاماً بعد رحلة كبيرة مع الحياة افترضتها مسترال رحلة غامضة تؤدي إلى الموت، وكُتب على قبرها عبارة قالتها ذات مرّة “فكما للجسد روح، كذلك هو الفنان إلى الناس”… غير إن ما لايُفهم من “مجازها” حينها، تمّ فيما بعد قراءته كصلاة، وهو الباعث للكاتب التشيلي – السفير في دمشق لأن يصدر الكتاب باللغة الآرامية – لغة السيّد المسيح، لما في نص الشاعرة غابرييلا من ترانيم تُقارب الصلاة، وهو ما يُفسر حضور الكثير من رجال الدين المسيحي حفل توقيع الكتاب إلى جانب الكثير من المثقفين في البلدين..
وأخيراً نختم بقصيدة من نصوص هذا الكتاب:
يا طفلة الصّيادات الصّغيرة
التي تقوين على الرّياح والأمواج،
نامي مزيّنة بأصداف،
مخربشة من شباك.
نامي فوق الكثيّب
الذي يحميكِ ويجلّك
وأنتِ تسمعين البحر المرضعة
الطّفلة الأكثر جرأة ويهدهد.