“إبراهيم طوقان” و”ناجي العلي” و”غسان كنفاني”، بما يمثلون من تيارات تدفقت من أرض فلسطين، شعراً ورسماً وقصة ورواية حفظت تفاصيل الأرض المسلوبة لتبقى حيةً في السجلات الإنسانية، ولا تذوب كالطَّمي في أرضٍ لا زرعَ فيها ولا نسل! دفترٌ تناقلته الأيدي الملهوفة جيلاً وراء جيل، لأنه حفظ روح الأرض المثخنة بالدماء والرحيق والجذور، كانت الأسماء التي احتواها تزداد من الشعراء والأدباء والمنشدين وكلّها تنسجُ بصبر ملحمةً تقاوم الزمن والمحو والزوال! حتى إذا بدأ الطوفان ورأينا ما فاض منه ومعه، لوحاتِ الفن التشكيلي البديعة التي كانت غائبة عن المقررات المدرسية ودور النشر وهي تزوّد المكتبات بآلاف النسخ من الكتب والدواوين ورسوم الكاريكاتير التي حكت بدورها تفاصيل فلسطين كأنها روايات غزيرة التفاصيل على طريقة “ناجي العلي” و”كنفاني”!
في “الطوفان” تحررت لوحات “سليمان منصور” و”إسماعيل شموط”، بما تمثله هي أيضاً من تيار فني صاخب حيّ، من الصوامع التي لبثت فيها عقوداً من الزمان فإذ بها هي الأخرى تحمل جلال الكلمة الروائية والشعرية وخطِّ الكاريكاتير ورحيق الجذور، وما كانت هذه اللوحات من قبلُ فناً في متناول الذائقة الشعبية كحال القصة والقصيدة ورسمة الكاريكاتير لا بموضوعاتها ولا بأسماء مبدعيها!
الفن التشكيلي، نخبوي؟ نعم! إنه كذلك، لأن اللوحة واحدةٌ، فريدةٌ، لا تتكرر! ولأنها لم تكن تبصر النور إلّا في “صومعة” الرسام، وإذا تنفّست كان ذلك في معرض جماعيٍّ أو فرديّ، وجماعةُ الذهاب إلى قاعات العرض محدودة، وسوق اللوحات له أهله من الذواقة، وزبائنُ هذا السوق لهم خصائص تُروى حين الاقتناء ودفع الأثمان وإقامة المزادات، لكن كلّ هذا سقط أو تنحّى جانباً في عصر وسائل “التواصل الاجتماعي” فعلى جدرانه، أو صفحاته، باتت غزارة النشر والتعريف والمشاهَدة محمودةً ومرغِّبة في مطالعة هذا الفن الموّار بالجمال وتوثيق التفاصيل بخلاصة روحها!
اليومَ، تمرُّ بيارات البرتقال وبساتين الزيتون وبيت وثوب “أم سعد” بألوان خلابة تحت البصر! اليومَ تتوهج شقائق النعمان مجموعةً في محيط “الأقصى” مع أطفالٍ حول أمٍّ ترتدي الثوب المطرّز الفريد في قماشه ونقوشه بين أزياء شعوب الأرض قاطبةً، وهي تطعم بيدها حمامةً بيضاء وتحت قدميها قنديلٌ مضاء، وتتلبّث العيون طويلاً أمام لوحاتٍ فيها صحراء التهجير، وعتباتٍ لا يبارحها أجدادٌ تتدلى من أيديهم سبحات كهرمان وكتاب مقدس ومفتاح بيت مازال محفوظاً مثلَ نفَس الحياة!
في اللوحة التشكيلية التي غادرت الصومعة، نقرأ ملحمة فلسطين، ويا لها من قراءة ممتلئة باللهفة وتذوُّق الجمال!