ملمحان لنصِّ اليوم

ثمة أمران لافتان في (نص) اليوم، ويبدوان من أهم ملامحه، وذلك أيّاً كان نوع هذا النص، وهنا أقصد النص الإبداعي، وليس أيّ نصٍّ آخر..
ملمحان لا يكاد تخلو منهما أيّة كتابة إبداعية، وأقصد بذلك “الشعرية والحكائية”، وأظن أنّ انتشار هذين الملمحين في الكتابة الجديدة؛ هو من أوقع نصوص اليوم في صعوبة التجنيس، فقد بات من الصعوبة بمكان، وأحياناً استحالة تجنيس نص ما، يفيض بهذين الملمحين، لاسيما ما يُكتب من نصوص قصيرة..
وللتنويه أيضاً، فإنّ الملمح الثالث الذي يُمكن أن توصف به الكتابة الجديدة، هي ميلها للتكثيف والإيماض والوجيز من الأدب.. بل حتى النصوص التي كانت تدوّن في زمنٍ ما، كالرواية على سبيل المثال التي كانت من الضخامة، بحيث تسرد لأجيال وبأجزاء، أمست هي الأخرى تكتفي بما لا يزيد على مئة صفحة، أو أكثر قليلاً.. فيما القصة صارت بين يدي كتّاب ال(ق ق ج)، قصة قصيرة جداً، كما انتهى زمن الملاحم الشعرية، وقصائد الموزون التي تذهب للإطالة لأكثر من مئة بيت من الشعر، وأصبحت تُكثف بـ”ومضة، أو شذرة، أو توقيعة، وحتى بالعمودي الوجيز، والهايكو..”.. بل إنه حتى الفنون البصرية صار لدى صُناعها هذا الميل للتكثيف مثل: الأفلام السينمائية القصيرة، واللوحة والمنحوتة الصغيرتين..
وبالعودة للشعرية والحكائية، فثمة سرد ما، سرد يُقارب الإخبار، ومفعم بالأحداث، وهو ما يبني “الحكاية” في النص الشعري اليوم، للدرجة التي دفعت بصديقنا الشاعر والناقد ياسر سكيف لأن يقول: “هاجسُ القصّ, أو روحهُ, سِمةٌ لكلّ عمل فنيّ, أو أدبيّ، فالرغبة بالإخبار هي الدافع الجوهري لأي عمل، وقد تكون الغاية إخبار الذات فحسب.”.. أما الشعرية، فهي من الحضور فكانت الأوسع، حتى بدا أنّ أي نص، وأيّاً كان نوعه أو جنسه، لا يُعوّل على جمالياته، إن لم تكون الشعرية أهم أركانها..
وتبدو “الشعرية” اليوم من الأهمية بمكان؛ إنها توازي أهميتها في القصيدة نفسها، وهنا من نافل القول التذكير إن الكثير من القصائد تفتقد للشعرية، وهو ما نلمسه كثيراً أو قليلاً في (عمود الشعر)، أو الشعر الموزون المقفى الذي هو غالباً “نظمٌ” فحسب، ويخلو من الشعرية سواء في قديم الشعر أم حديثه..
الشعرية اليوم تتوزع في القصة، ولاسيما القصة القصيرة جداً، وهي من الضرورة بمكان في هكذا نصوص، حيث (المجاز) الذي يفيض بمضمون النص من خلال البلاغة الجديدة من حذف وإضمار وانزياح، وترميز وغيره، وهو ما يعوّض من قصر النص، حيث الاعتماد على فيض المجاز في التركيب الجديد والذي يغني عن سرد مئات الصفحات، لاسيما في الاعتماد على طاقة المفردة في سياقها الجديد، ومخزونها في الذاكرة الجمعية للمتلقي..
أما “الحكائية” التي باتت هي الأخرى بالأهمية ذاتها حتى في (الأنواع الصحفية)، فمع الميديا الجديدة التي تضعك في قلب الحدث خلال ثانية من الوقت، أمسى التنافس اليوم على (القصة الخبرية)، أو الخبر – الحكاية، وليس التحقيق الصحفي سوى قصة قصيرة شخصياتها نُشير إليها بالبنان..
هامش:
…………….
انتظري
حتى ينتهي هذا الليل
من نواحه في الدروب والشوارع الضيقة.
انتظري
حتى ينفخ هذا السكون
روحه في كلّ الزواريب؛
فقد عزمتُ
أن أحوك لكِ
من مساءاته تنانير قصيرة؛
ومن صباحاته قُمصان بيضاء؛
ومن حنيني
كلّ أثوابك الشتوية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار