مسقط الرأس والإغواء الأخير

بالنسبة للمبدعين؛ يكاد المكان الأول الذي يولدون ويعون فيه ذواتهم، أن يُشكّل (زوادة) إبداعية تكون كنبعٍ لا نهاية لمائه التي تتدفق بانهماراتٍ مختلفة، تظهرُ في نتاج المبدع – أياً كانت شواغل إبداعه- وذلك بتجلياتٍ متنوعة، وقلّما “نجا” مبدعٌ من سطوة البيئة الأولى، أو مكان الولادة!!

هنا يُمكن الحديث عن لُغزٍ مُحير، فيما يتركه المكان الأول عند الإنسان، بل وحتى عند الكثير من الحيوانات، في هذه “الجاذبية” التي تشدُّ بالكائن صوب حكايا المكان الأول الذي قد يكون أمسى قصيّاً سواء لجهة المسافة، وحتى لجهة الزمن.. وحتى عندما يُبتلى هذا الكائن بمضاعفات (الزهايمر)، تبقى حكايات الطفولة عصيّة على المحو والنسيان، حيث تحضرُ طازجة وحارة وكأنها حدثت بالأمس، مع أنّ صاحبها يكون قد عاش الثمانين حولاً سواء سئم فيها أم لا يزال يُريدُ المزيد..

غير أنّ حيرة هذا اللغز ستزداد ولاسيما مع هؤلاء المبدعين الذين تغربوا وتشرقوا، وذهبوا جنوباً وشمالاً في مغارب هذه الدنيا ومغاربها، جنوبها وشمالها، حيث تلك الوصية التي يوصي بها المبدع، بل وحتى عند الكثيرين ممن لم يُعرف عنهم أي نتاج إبداعي.. تلك الوصية التي تقول بالعودة بالجسد، حتى وإن فارقته الروح إلى ما أطلق عليه (مسقط الرأس) ليُدفن هناك، ومن ثمّ لتطمئن الروح الهائمة وتسكن في أبديتها..

يُحكى عن الفنان التشكيلي الفرنسي جاك لوي دافيد (1748- 1825) أحد أبرز فناني المدرسة الكلاسيكية الجديدة، أنه قبل موته في منفاه البلجيكي كان أوصى بدفن قلبه في باريس وجسده في بلجيكا، أما فريدريك شوبان (1810 – 1849) الذي يتردد النقاد في تحديد مسقط رأسه، فقد ترك جسده في باريس، وقلبه لا يزال محفوظاً في إحدى كنائس فارصوفيا إلى اليوم.. غير أنّه كثيراً ما رويت عنه هذه الحكاية وهي أنّه حين غادر وطنه بولونيا إلى فرنسا حمل معه حفنةً من تراب بلده أوصاهم بدفنها معه في باريس.. تقول الروائية السورية غادة السّمان: “لن أكتبَ وصيّتي كما فعل الفنان التشكيلي دافيد وأقول: ادفنوا قلبي في دمشق وجسدي في باريس، فقد ظلّ قلبي مختبئاً طوال سنوات الغربة في تراب ياسمينة بيتنا العتيق في ساحة النَّجمة، ولم يغادر دمشق يوماً ليعودَ إليها.. كما لم أحمل معي حفنةً من تراب وطني كشوبان لدفنها معي في المنفى، فجسدي نفسه سيستحيلُ حفنة من تراب سورية أينما دفنوه.”.. أما شاعر العربية ومفكرها اليوم أدونيس تولد (1930) الذي عاش معظم سنواته التي تجاوزت التسعين في بلاد الاغتراب؛ فقد بقي قلبه مُعلقاً في “قصابين” قريته في ريف جبلة تلك التي بنى فيها بيتاً وقبراً.. وأختم مع وصية الشاعر المهجري ابن حمص نسيب عريضة (1887 – 1946):

يا دهرُ قد طالَ البُعادُ عن الوطن

هل عَودةٌ تُرجى وقد فات الظَعَن

عُد بي إلى حِمصٍ ولو حَشوَ الكَفَن

واهتِف أتيتُ بعاثِرٍ مَردودِ

واجعَل ضريحي من حِجارٍ سُودِ

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار