كانت الطفلة، وهي تدرس مجموعة قصائد لعدة شعراء، تجِدُّ في استخدام ذاكرتها وضبط كل قصيدة تحت اسم شاعرها، ودون قصد منها حوّلتْ كلَّ انتباهي إليها: الشعراء مختلفو الأزمنة والأساليب: عمودي، تفعيلة، ببحور موزونة، ورويٍّ واحد، وآخر مختلف! ورأيتُ كم كانت تعاني حين تحاول ربطَ القصيدة بشاعرها، حين تغلق الكتاب لتسترجع ما حفظَت، وأنا أبحث عن طريقة تناسبها لربط عرا الذاكرة وتثبيت تفاصيل كل قصيدة مجموعةً في إهابٍ واحد: المناسبة التي قيلت فيها القصيدة (كلها قصائد وطنية تنتمي إلى حدث قومي معاصر) أو ربطاً بمكان حدثت فيه معركة شهيرة، أو بطل يتردد اسمه وله تمثال في ساحة عامة، وكانت تصغي بشغف إلى الإطارات الحكائية المحيطة بالنص الشعري حتى لا تضيع بين النصوص التي تحفظها، لكن كم سيدوم هذا في حياتها المعرفية القادمة؟؟
بين الكبار، في عالم «الثقافة» تُتَداول أسماء بثقة وفي الواقع لا يكاد قائلها يعرف شيئاً عن صاحب الاسم، كأن في عالم المعرفة لعبةً انتقائية لا أحد يحاسب على قواعدها: حكمة «المتنبي» لا تضاهيها حكمة شاعر في التاريخ الإنساني! لكن من هو «المتنبي» ؟ في أي عصر عاش؟ كيف ارتقى إلى ذروة لم يصل إليها أحد؟ أسلوبه في النظرة إلى الذات، الرثاء، الهجاء، الحب، ثم تقتصر المعرفة على حكاية «رثة» عن لحظة مقتله! وعلى الشاكلة نفسها تغيم التفاصيل المتعلقة بكثير من الأعلام في الأدب والفلسفة والفكر الإنساني عامةً، حتى إذا ما طرحنا سؤالاً عن روائي أو شاعر أو متصوف تلكأ المجيب وفقَدَ كلَّ السبل إليه، والفرق كبير هنا بين قلة المعرفة واكتظاظ الذاكرة بالتفاصيل، لأن قلة المعرفة لن تجد باباً تنفذ منه إلى أي منطقة تخصُّ موضوع السؤال، أما اكتظاظ الذاكرة فسيفسح أمكنةً، مهما ضاقت، للوصول إلى منعطفات مُنارة بمعلومات تسلِّم بعضها لبعض!
الشائع اليوم في عالم «الثقافة» الذي تداخل بلا حساب مع “الإعلام” أن تُستخدم الأسماء بلا خلفيات مشبعة بالمعارف، وأن يمرَّ بها قائلُها مرور المتجرّئ الواثق بأنه أتى ما أتاه باحثٌ متأنٍف ذهب إلى التحقيق والتدقيق والمراجعة والتثبيت، وفقط حين المواجهة سيتداعى كل ما بُني على هذه الهشاشة من المعرفة، وسندرك كم من «عالِم» يتربع في عالم «الثقافة» دون علم! ولعل الصورة الحقيقية، لكن الهزلية، التي تُظهّر هذه الحالة، هي التي تجري في المسابقات المأجورة بالجوائز وتُعطى فيها احتمالات الأجوبة! وهذه المسابقات أنموذجية في عرض حالة «الثقافة» المعاصرة في عدم عمقها وارتفاعها على قصور وتفكك وحفظ أسماء تائهة دون بوصلة تشير إلى أي اتجاه في الزمان والمكان!