زمن القواقع

جماعةً كنا في جلسة قد لا تتكرر لأن “الصالونات” الأدبية اختفت لسبب ما عاد البحثُ عنه مجدياً بعد مفاعيل الحرب وتقطّع السبل أولاً بين المدن وتالياً ضمن المدينة نفسها، ومعاناة تأمين الرغيف والزيت والملح عند الأغلبية، انتقلت إلى ذوي الشأن الثقافي الذين ربما عوضوا تفرقَهم القسري بالتواصل عبر الوسائل “الذكية” ما استطاعوا! لكن مهما تطور الذكاء الصناعي لا يغني عن لقاء حيٍّ تشتغل فيه الحواس وتتقاطع الأنفاس ونبرات الصوت ونظرات العيون في مهامّ تتطلب توقيعاً شخصياً!
كنا في مكتب أحد مسؤولي الثقافة وقد انصرف الحضور قبل وصولي، ماعدا شاعراً راسخَ الاسم جدّد قهوته العربية المُرّة معي ورحنا بحضور صاحب المكتب المشهود له بإغناء المكتبة العربية بالترجمات والأبحاث، “ننتشُ” الأحاديث من هنا وهناك كأننا ندرك أن الجلسة لن تطول ولا يمكن أن تطول بحكم توقيتها الذي ينتهي مع الدوام في الثالثة والنصف بعد الظهر! وبعد أن استكملنا على عجل الكثير من الذكريات والأجوبة عن أسئلة: -ماذا تكتب هذه الأيام وأين تنشر؟ -ما زلتَ في دمشق أم سافرت لتقيم في بيت العائلة في مدينتك الصغيرة؟ -كيف تتدبّر أمورك المادية بعد النازلة التي حلّت بنا جميعاً؟ -ما زلتَ عند رأيك بأهمية الجوائز الأدبية العربية التي تُمنح بمبالغ طائلة لفائز واحدٍ فقط؟ -لماذا اختفيتَ من لجان التحكيم السنوية التي كنا نشترك فيها معاً؟ وكان كلُّ جوابٍ باباً لقضية تشغل عادة الفضاء الثقافي الرحيب! بعد هذا لمحتُ مصنّفاً مكتظاً بالورق على مكتب المضيف وكنت قرأتُ مسبقاً كلّ ما فيه على أنه مخطوط لعدد من كتاب يتنافسون على “جائزة” نشر وسألته: -أما لاحظت المذابح التي شُنت على اللغة العربية في هذا المخطوط؟ كيف يتصدى كاتب للتأليف وهو لا يتقن الصياغة ولا يعرف استخدام حروف الجرّ، ولم يصل إليه بعد أنّ في لغتنا ما اسمه ممنوع من الصرف وأن الصفات تتبع الموصوف في التأنيث والتذكير والجموع والمثنى؟ فقال لي مبتسماً: -مع ذلك في هذا المصنّف كتّابٌ موهوبون ويمكن إجراء التصحيحات اللازمة ثم التعديلات التي لا تمسُّ الفكرة!!
ما فعله الشاعر هو هزُّ قناعة لديّ ما حسبتُ يوماً أنني سأعيد فيها النظر! كنت أعتقد أن الصائغ يجب ألّا يأتي إلى الصياغة إلّا وهو على دراية باستخدام الجواهر، وإذا مدّ يده إليها عرَفَ الدرَّ قبل أن يلقي انتباهاً إلى حجر الماس أو ما دونه ندرةً كالعقيق والياقوت أما وقد منحني الشاعر الصديق هذه الفكرة ببساطة وثقة وأتبعها بأن الكثير من الكتاب بل و”دكاترة” الجامعات يرتكبون هذه الأخطاء، فكيف بمن يدفعون بكتاباتهم إلى المسابقات لأول مرة؟ لم أستطع إطالة الجدل والحديث مجدداً عن لغتنا المظلومة، بل افترقنا وفي نفسي شيء مؤجّل: نحن في زمن القواقع وقد نراها تغمر كلّ شواطئنا ودروبنا، وقد تلمع وتقعقع لكنها، أبداً، فارغةٌ من الدرّ، عصيةٌ على تزيين تاج رأس أو سوار يد!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار