نبوءاتٌ جريئةٌ قليلاً
لم يعد من اليسيرِ إطلاقُ نبوءاتٍ حاسمة وتوقعُ انفراجات في أيّ من البؤر الملتهبةِ حول العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط، لاسيما أن الارتباطَ أمسى وثيقاً ومؤكداً بأن أدواتِ التحكم تكاد تكون في يد واحدة..
والواضحُ أن دفة السياسة في هذا العالم تُدار اليومَ بشكل شبهِ مطلقٍ في الغرف الخلفية أو “الكواليس” كما يسمونها في أعراف صناعة المسرح، ولانظن أن مثل هذا التحول في “المسرحية الكونية” بات صعب الاستنتاج، بالتالي يجب ألا يكون مفاجئاً ظهور تحولات عميقة في نتائج حسم الكثير من الملفات الراهنة، سواء منها الإقليمية الساخنة أو الدولية الكبرى المصيرية والحدية بالمطلق.
من هنا علينا ألا نؤخذ بالصراخ والتهويل والبُعد الإعلامي السطحي في تسويق المواقف، فما تحت الطاولات وفي خلفيات المشهد ثمة الكثير من المجريات المؤثرة هي ما سيسفر عن كل جديد مرتقب، ولعلنا اليوم أمام حالة فصام غير مسبوقة بين التصريحات و المواقف المعلنة والأخرى الحقيقية التي تتبلور في اتجاه آخر، أي حرب التصريحات تكاد تكون لتسلية الجمهور أو لتضليل الساسة السذّج في هذا العالم الذين تعتريهم صعوبة في الفهم والنفاذ إلى مضمار الحقائق العميقة.
فعلى الجميع مثلاً أن يتوقعوا حسماً مباغتاً لأكثر الملفات تعقيداً كملف غزة الملتهب، في إطار تسويات واسعة الطيف، بما أنه بات ملفاً أوسع بكثير من مجرد حدث محلي فلسطيني أو إقليمي شرق أوسطي، ومثله الحرب الروسية الأوكرانية، ومثلهما الوجود الأميركي في العراق وسورية، وكذلك المأزق التركي وإشكاليات العلاقة مع الجوار ..ولاحقاً المشهد العالمي باصطفافاته الجديدة في سياق التنازع القطبي الحاد.
و بكل تأكيد ستكون العبرة في الخلاصات، أي من سيبكي ومن سيضحك أخيراً، وفي هذه الخلاصات ربما نكون أمام مفاجآت قاهرة لبعضهم، ولعل الأوروبي سيكون أكثر من ستأخذه الصدمة، وستصدمه متوالية الخسائر بالمصالح في أصقاع متفرقة من هذا العالم، طالما كانت مكتسبة على خلفيات استعمارية سابقة، كما ستفاجئه أزمات عميقة اقتصادية واجتماعية في الداخل ورضوض قاسية مع نهايات زمن الرخاء والترف.
وقد تكون الصدمة الأقسى أن يجد الأوروبي نفسه خارج اللعبة -لعبة المصالح- بعد أن يتخلى عنه الأميركي ويشبك الأخير مع اللاعبين الكبار في القطب الصاعد، العدو الجديد المعلن، ومن يدري قد يغدو حلف شمال الأطلسي إطاراً سميكاً لاحتواء مبتلعي الطعم وضحايا الخديعة الأميركية الكبرى، ونستثني بريطانيا طبعاً المعروفة بدهائها في اللعبة الدولية، إذا لم يكن انسحابها من الاتحاد الأوروبي منذ سنوات إلا خروجاً من عباءة عجوز يحتضر أو خطط لاحتضاره، أوليست بريطانيا ذاتها الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس لأن ” من الصعب الوثوق بها في الليل”..؟
وركزنا على الأوروبي في حديثنا لأنه كان أكبر الخاسرين الحقيقيين في مجمل السياسات الأميركية خلال الألفية الراهنة، ولعلنا جميعاً ندرك أن منطقة اليورو والعملة الأوروبية الموحدة كانت أكبر وأخطر مسمار دُقّ في نعش “العجوز الأوروبي” بمطرقة أميركية، لتتوالى مشاهد الانهيار التجاري والانكماش الاقتصادي الأوروبي لمصلحة تدفقات التجارة الأميركية.
قادمون على تسويات شاملة بكل تأكيد، فالعكس ليس في مصلحة أي طرف لأن التصعيد سيعطل مصالح الجميع التي هي أسّ الصراع وعلّته، كما أنه من الصعب بقاء الكباش بوتيرته الراهنة لأن الجميع متضرر، بالتالي ستظهر نتائج تسويات قسرية وهي ما سيشكل مفاجآت صادمة لبعضهم.
أياً كانت حقائق المجريات غير الظاهرة سنكون في سورية من الرابحين، لأن ورقة الجغرافيا رابحة بامتياز، ووفقاً للفرضيات أعلاه لن يكون بمقدور أي طرف تجاهل سطوة الموقع الإستراتيجي لهذا البلد، هكذا تخبرنا تجارب التاريخ القديم والحديث، وعلى الأرجح كل اللاعبين في المسرح الدولي قارؤون حاذقون للتاريخ.
يبقى علينا نحن أن نكون مؤمنين شغوفين بالهوية السورية التي ينطوي تحتها ألف عنوان وعنوان، المصلحة السورية أولاً قبل أي مصلحة، والخصوصية السورية ميزة وأولوية قبل أي اعتبار، والباقي لن يكون مثار خلاف بما أن لغة المصالح تحظى بأكبر عدد من الناطقين بها في فضاء العولمة الجديدة.