مواربة الأسى

إذا نظرت إلى كأس، حتى ولو كان نصفه فارغاً، فلا تُركِّز انتباهك على امتلائه من عدمه، بل تَغزَّل بِبَلُّوره، وتكوينه، وعلاقته بالظلال المترامية حوله، وموشورية النور الخارج منه. تعامل معه كلوحة فنية مكتملة الأركان، واحفظ بصماتك على عُنُقه، وآثار شفاهك على أطرافه، وتذكَّر كَمْ كان يرويك، ففي الذكرى حياة.
وفي حال سَيْرِكَ مُضطَّراً إلى أي مكان، لا تَقِسْ المسافة بالأمتار، ولا بالأميال، وإنما بعدد الأغنيات التي تُحِبُّها وصَدَحْتَ بها في الطَّريق، أو احسبها كما يفعل الشُّعراء الرومانسيون، بِكَمِّ العيون السّارحة واللِّحاظ الجارحة التي تشحذ المُخيِّلة فتصبح جزءاً من قصيدة، أو بعدد الأزهار الفوَّاحة، وترانيم العصافير اللاهية بين الأشجار المنتصبة، والتي تتغلغل في حنايا روحك كرفيق درب، فمن دون ذلك كل طريق طويل، وكل مسافة شاسعة.
وإن خطر على بالك أن تلوم صديقاً على خطئه معك، اختلق له الأعذار تلو الأعذار، واسعَ ما استطعت لابتكار البهجة بينكما، ووارب أَسَاكَ، جاعلاً لقاءكما معجوناً بالنسيان، وفراقكما مليئاً بالذكريات الحلوة، وحتى إن لم يفهمك، إلّا أنك ستنتصر في النهاية، ولو كان انتصارك على هيئة خَسَارَته بِشَرَف.
وإذا ضاقت عليك الدُّنيا، اقرأ قدر استطاعتك، وعِشْ أكثر من حياة، اقرأ الهواء والماء والتراب والنار، اقرأ وجوه من تُحبّ، اقرأ حركة البشر، وتناقش مع الحساسين والأرانب والسنونو، ولا تترك مساحةً في قلبك للفراغ، بل املأها بالحُبّ والصخب، ولا تُفكِّر بالعطلة والسكون، لأن سكينة القلب بالجنون.
وإن أصابك الملل، تَعلَّم من النَّهر، وارقص مع خيوط الشمس كدرويشٍ أزليّ، وأصْغِ لصوت الريح في روحك، واجعل صلاتَك أجمل لَذّاتك، وسَبِّح لأجلك ولغيرك كذاتك.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار