كانت حكايةً للأطفال، لا أتذكر منها إلّا بهاء الصورة في ختامها! من هو بطلها؟ لا أتذكر! ماذا كانت أمنيتُه؟ لا أتذكر! ما بقي من هذه الحكاية هي الشجرة المورقة الوارفة التي علّق عليها الأطفال أمنياتهم وراحت تتماوج على الأغصان بين الأوراق الخضراء!
لا بدَّ أن الكاتب الذي أبدعها، وهي قصة مترجمة، كان أديباً حرِّيفاً حين أخذ بلبّ القارئ الصغير إلى عالم الطبيعة الساحر وجميلتِه الشجرة، بحيث قد تضيع التفاصيل ولكن يبقى العطر والأثر، كما حصل مع قارئ كبير مثلي حين عوّضْتُ النسيانَ بالتأليف الذاتي وأنا أتصفّح المراثي التي تكوكبَت حول الشهيد الذي أسرَ القلوب حيّاً ثم مغادراً للأرض، يوقظ أحياءَ العالم ليروه وهو يتخطّى العتبة النورانية قبل الغياب الأبدي ويحرك حتى في النفوس الساكنة ما غفِل عن أحداث العالم!
في مكاني الذي طال فيه القعود، كنت أراهم يعبرون كعبور أصحاب القرابين إلى “المذبح”، وهناك، بعيداً، على العتبة المرمرية يضعون القربان: رجلٌ يعمل في الصناعة ويداه وعيناه لم تألف إلّا المعادن الصمّاء يقدم حِضْنَ سنابل ذهبية تكاد تطرح قمحَها الناضج! قبطانٌ بحريّ نزل من سفينته وغسل يديه من ملح البحار ليضع سلةَ المرجان ويتلو صلاةً قبل أن يُقفِل عائداً ويداه معقودتان على صدره! شاعرٌ عادت إليه القريحة شديدةَ الشوق فكتب القصيدة بحروف من جمر وعلّقها في عروة سنبلة! عازفٌ كانت الآلة تتمرد عليه لكنها استجابت لأصابعه وأطلقت أغنية مديدة لم تجد مستقرّاً لها إلّا إثْرَ المغادر الحبيب في الفضاء الرّحيب! وأنشدت فتيّةٌ نقيةٌ لم يلمس بشَرَتَها إلّا الدمعُ والماءُ نشيداً شجياً في الفَقْدِ والفضائل! وسحبَت أمُّ شهيدٍ منديلاً مطرزاً من آلاف المناديل التي طرزتها لابنها في الليالي الباردة والمقمرة، لتضعه على العتبة التي مرّ عليها الشهيد! وللحظة ما عدتُ أستطيع الإحصاء ولا تبَيُّنَ ملامح الذين يودعون الشهيد ويتبرَّكون بآثاره لأنّ الأرض ازدحمت بالمواكب والحبَّ أعشب والمسكَ فاح، والزمن لا يوقف ساعاتِه ومسارَه، ومن أعماق الذاكرة يخرج كلُّ جميل!
“شجرة الأمنيات” تشرق فجأة في خاطري وأنا في قلب المشهد، تلك الشجرة التي لم تلمسها إلّا أيدي الأطفال النظيفة يعلقون عليها أمنياتهم المرسومة على ورق، المكتوبة بأقلام ربما أغفلت الحبر والمداد، لكنها جعلت الشجرة تتوهج كأنها أثمرت جواهرَ من ماسٍ وياقوتٍ ولؤلؤ تضاهي أشجار الواقع والخيال، وكيف لا تفعل وقد هفت إليها القلوب ولامستها الحواس التواقة إلى حقٍّ مطلوبٍ ومرتجى؟