بعد فشل “جلجامش” في الحصول على نبتة الخلود، تبرأ من ماضيه الدموي الذي سبق موت “أنكيدو” ووهب ما تبقى من حياته لبناء الإنسان في مدينته “أوروك”، ما أغضب العروش اللاحقة، فأعدت العدة، للقضاء على “سقراط”، ليسود من بعده خطاب “قابيل” و “هابيل” كدستور لابدّ للبشرية بمختلف طبقاتها مِن العمل تحت حمايته لشرعنة صراعاتها اللاحقة تحت شعارات وجبهات وتسميات تحددها ظرفية المرحلة القائمة، أما على صعيد الفكر الإنساني الفلسفي والفني فقد استمر في صراع خاسر مع ذاك الدستور إلى أن وصل به المطاف مع بداية الألفية الثالثة إلى الاستسلام!!..
الصراع بين قابيل وهابيل منذ نشأته بدأ يأخذ الشكل المؤسساتي الرسمي، فهناك نمطان مختلفان مفروض عليهما العيش فوق كوكب لا بديل عنه لاستمرار وجودهما، لكن الأنا المفطورة على أحادية المعنى لن تسمح للنقيض بالتمادي على ممتلكاتها، ولأنها علي يقين من أن وجودها مرتبط بوجوده، فكان لابدّ من هيمنة أحدهما على الآخر لتكتمل دائرة الصراع حول نقطة مركزية يهيمن عليها المنتصر، ومع أن العلوم الإنسانية كانت على دراية بأن النتيجة لن تكون لصالح الإنسان، إلا أننا سوف نلحظ تواطؤاً -غير مبرر- للكثير من أدبيات العلوم الإنسانية مع أحد القطبين المتناحرين، إلّا إذا كان هذا التواطؤ ينمُّ عن إعلان الهزيمة أمام جيوش النمط الاقتصادي الذي يبرر بدوره السيادة لجنوده ولرعاياه على الآخر، القسم الثاني من أدبيات العلوم الإنسانية سوف يقف مع الإنسان، ويلجأ إلى محاولة الإعلاء من شأن- سقراط- الحكمة لكونها الضامنة لاستمرار المعنى المادي والميتافيزيقي في منح جمالياته على الأرض، وبالتالي ينتفي التضاد السلبي الذي جعل من ” أوروك” مقبرة لا حدود لها، قبل أن يتحول جلجامش إلى بطل ملحمي نصفه إله ونصفه بشر..
قبل حلول الألفية الثالثة، لم يكن هناك من جديد فوق الأرض، فقابيل وهابيل مازال كلّ منهما متمسكاً بنمطه الاقتصادي الذي يظنه هو الأجدى بالسيطرة والسيادة على البشرية، ولكلّ منهما قبيلة من منتجي “الأدبيات” التي تَعِدُ القاتل والقتيل على حدٍّ سواء بالتجاور في أحياء “أوروك” إلى أن يتم استبدال كأس السم التي تجرعها “سقراط” بماء الحياة!!.
مع حلول الألفية الثالثة، كان قابيل وهابيل القرن المنصرم قد شاخا إلى الأبد، فكان لابدّ من أن يتركا مجبرين ساحة الصراع لأحفادهم المولودين من أرحام الشركات المتعددة الجنسيات والبنوك الرقمية الخضراء، ما استدعى إبعاد الريادة عن الخدم السابقين، وعلى رأسهم الفلاسفة، ليحل محلهم خدم باختصاصات علمية ضيقة، لكنهم في الوقت ذاته أكثر إخلاصاً وتبعية وإنجازاً لأولياء نعمتهم، وخاصة أنهم غير معنيين بما حدث قبل الثورة الرقمية، التي خوّلتهم بدورها امتلاك منجزاتها وتثويرها بتقنيات تقوم بتحديث ذاتها على مدار الساعة، حتى ظنَّ “الرعايا- الشعوب” بأن سقراط انتصر على السم، وبات ماء الحياة بمتناول الجميع، ولم تعد هناك حاجة للعلوم الإنسانية، وخاصة أن الأخيرة قامت -مجبرة- مع بداية الثورة الصناعية بفك ارتباطها التقليدي مع الرياضيات، والطب، وعلوم الفلك، والفيزياء، والكيمياء ،والبيولوجيا.. إلخ من العلوم التطبيقية التي كانت تحت إمرة الفلسفة في السابق، واستقلت عنها لتكون في خدمة المد التقني والمال المتوحش، بعيداً عن “الأخلاق” التي كانت تلجم توحشها الأعمى، لتكون في خدمة الإنسان، فارتد “جلجامش” إلى العهد الذي سبق لقاءه مع “أنكيدو” ظافراً، تاركاً للعلوم الانسانية هامشاً تتنزه في حدائقه الرقمية لإنتاج خطاب الكراهية بين قابيل وهابيل بصور مزورة، ومعاصرة جداً، مع التأكيد على اللاجدوى من الخيماء، وفشلها الدائم في تحويل السم إلى ماء الحياة، فإلى أين نحن ذاهبون!!..