اللغة التي أقنع فيها نزار قباني الشعرَ بالنزول إلى الشارع!
في كتابه (قصتي مع الشعر) الذي نشره في سبعينيّات القرن الماضي؛ يعرض نزار قباني (1923م – 1998م) خلاله على قرّاء دواوينه، ونقادها؛ رؤيته للشعر، وموقفه من الإبداع فيه، حيث أوضح رأيه في لغته التي اختارها لتقديم أشعاره فيها، وخلاله ردد عبارة (اللغة الثالثة) التي شاعت وصفاً لما يكتب نثراً أو ينظمُ شعراً بلغةٍ متوسطةٍ بين الكلام الفصيح “المُيسّر” والعامي الذي له وجهٌ في اللغة، وهو أيضاً ما اقترحه توفيق الحكيم، وما قاربه نزار قباني حين تحدث عن هذه اللغة في شعره؛ فهو ينطلق من مقصد واحد: اعتماده لغةً وسطى بين الفصحى والعامية مع سلامتها اللغوية عامة.. وهي تماماً كما وصفها: إنها تأخذ من اللغة الأكاديمية منطقها وحكمها ورصانتها، ومن اللغة العامية حرارتها وشجاعتها وفتوحاتها الجريئة، كما تحاول أن تجعل القاموس في خدمة الحياة والإنسان، وتبذل ما بوسعها لتجعل درس اللغة العربية في مدارسنا مكان نزهةٍ لا ساحة تعذيب.. لغة لا هي متعجرفة ولا مبتذلة.. وفي رأيه كانت لغة الشعر متعالية بيروقراطية لا تصافح الناس إلا بالقفازات البيضاء، ولا تستقبلهم إلا بالقبلة المُنشاة وربطة العنق الداكنة، وكل ما فعله؛ أنه أقنع الشعر أن يتخلى عن أرستقراطيته، وينزل إلى الشارع..
تلك اللغة التي دفعت الدكتور محمد رضوان الداية؛ ليدخل في مرجعياتها، ويُقدمُ معجماً فيها في كتاب (معجم لغة نزار قباني الشعرية) الصادر ضمن سلسلة قضايا لغوية عن الهيئة العامة السورية للكتاب.. وهو دراسة في لغة الشاعر قباني، قائمة على فرضية مُلخصها أن الذي اعتمده الشاعر ليس لغةً ثالثة، وإنما لغة استوت للشاعر من ثقافته الواسعة، ومن معايشة الكلام الدمشقي، والشامي – الشائع الدارج في بلاد الشام، وكذلك الشعبي الذي هو أعم من الشامي، وهناك (الدخيل)، وهو ما أورده الشاعر من المفردات الأجنبية، وأيضاً (المبتدع)، وهو ما ورد من مفردات من مادة لغوية عربية صحيحة، لكنه أوردها على وجه اقتراحه هو.. وائتلافه معه، وصدوره عنه، إلى مصادر جانبية أخرى أسهمت في تشكيل لغته الشعرية، واختبار مفرداته، وإنشاء عباراته، والتعبير عن ذاته.. ومن هنا يؤكد الداية على أنها ليست لغةً ثالثة، وإنما لغة نزار قباني، ولغة شعره..
كتاب؛ يقول عنه صاحبه؛ إنه يدرس لغة نزار هذه، ويرصد صلتها بلغة الناس في دمشق في أيامه، وتسامحه في إيراد المفردات والعبارات التي يريدها لبنائه الشعري.. نزار قباني الذي تتلمذ على يدي أحد شعراء دمشق، خليل مردم بك (1889م – 1959م)، وقد سمّى ديوانه الأول (قالت لي السمراء)، وصدر سنة 1944م، وهو عنوان لقصيدة في ديوان أستاذه مردم بك (قالت لي السمراء) مؤرخة بسنة 1944م أيضاً.. ويضيف الداية: نزار قباني لم يُبالغ، وهو يذكر أثر البيئة في حياته من جهة، وفي شعره من جهةٍ أخرى، لأنها برأيه بيئة تتسعُ فيها الدوائر.. بين دائرة المنزل الدمشقي، ودائرة الحارة التي وجد فيها، ودائرة الحي الأوسع، ودائرة الأسواق المجاورة، ومن ثمّ دائرة دمشق التي ملأت وجدانه، وأسهمت في تشكيل ذوقه الشخصي، وذوقه الفني.. ولكل واحدة من هذه الدوائر خصوصيات وجماليات عاش الشاعر في ظلالها، وجعلها في جملة عمله الشعري..
أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي
لسال منه عناقيدٌ وتفاحُ
يذكر قباني: هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتُنا كان في تلك القارورة، وضمن هذا الحزام الأخضر ولدتُ، وحبوتُ، ونطقتُ كلماتي الأولى.. وكان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً.. هذا البيت المظلة التي تركت بصماتها على شعري تماماً كما تركت غرناطة وقرطبة وإشبيلية بصماتها على الشعر الأندلسي.. ومن هنا يذكر: كنت أشعر أنّ هذه الأبجدية الدمشقية التي يعبرون بها عن أنفسهم هي القاسم المشترك الذي جعل دمشق وبيروت جنينين يتحركان في رحمٍ واحد (..) إنني حين أتحدث عن هذه الأبجدية الشامية، فإنما أتحدث عن واقعٍ لغوي ووجودي، وحضاري ونفسي جعل للشعر في هذه المنطقة من البحر المتوسط خصائص ومواصفات لا نجدها في المناطق العربية الأخرى.. ومن هنا يرى الداية: تراوحت أساليب نزار بين النمط الذي يصح أن يُقال فيه إنه نمط شعبي، وبين الإحكام والجزالة، وما يكون بين هذين القطبين من أطراف الكلام..
إن كنتَ صديقي؛
ساعدني كي أرحل عنك!
أو كنتَ حبيبي؛
ساعدني كي أشفى منك،
لو أني أعرفُ
أنّ البحر عميقٌ جداً ما أبحرت!
لو أعرفُ خاتمتي؛
ما كنتُ بدأت!