“من دون سابق إنذار”
تصدرت هذه الجملة الكثير من النشرات الإخبارية والتقارير الإعلامية، وارتبطت، حسب وسائل الإعلام، بأمر أعطاه الرئيس الكازخي قاسم توركاييف لجنوده بإطلاق النار على المحتجين في الشوارع “من دون سابق إنذار”.
كل ما سيحدث بعد هذه الحملة الإعلامية- الإعلانية ستتحمل وزره الحكومة الكازاخستانية والرئيس، فكل من سيسقط قتيلاً أو جريحاً من المحتجين، حتى لو كان يقود دبابة أو يحرق مقراً من مقرات الحكومة، هو ضحية الإجراءات الحكومية لأنه سقط “من دون سابق إنذار”.
فيما وصلنا من أخبار، حدثت مواجهات بالأسلحة الرشاشة بين الشرطة والمحتجين قتل خلالها ثمانية من رجال الشرطة، و24 من المحتجين، وأُحرقت المؤسسات الحكومية ومراكز الشرطة في العديد من المدن بما فيها ألما- آتا، والعاصمة نور سلطان.
ما يحاول الإعلام الدولي تسويقه، أن مجموعة من المحتجين السلميين خرجوا إلى الشوارع بسبب ارتفاع الأسعار والفساد واستطاعوا قتل ثمانية من رجال الشرطة المدربين، ثم انتظموا في مجموعات استولت على مطار مدينة ألما- آتا، وحاولت المجموعة الاستيلاء على مطار العاصمة لمنع وصول قوات السلام التابعة لدول معاهدة الأمن الجماعي، وكل ذلك حدث بشكل عفوي ومن دون تخطيط، وكان من قبيل المصادفة أن وزير الخارجية الأميركي، والناطقة باسم الاتحاد الأوروبي قد شككا بمهمة هذه القوات، وبشرعية الطلب الحكومي باستدعائها.
نفس الإعلام سبق له أن سوّق لنا أن مهمة حلف “ناتو” في العراق هي نشر العدالة والديمقراطية، رغم أنها أزهقت حياة أكثر من مليون عراقي.
والأمر ذاته ينطبق على التدخل في ليبيا وسورية، فكلها تمت من دون طلب من حكومات هذه البلدان. كما وسوّق أن إطلاق رصاصة واحدة على جندي أميركي أو مستوطن صهيوني هي أعمال إرهابية موصوفة تستوجب الرد بالقصف والتجويع ومنع المساعدات الطبية والحصار الاقتصادي.
وكل هذه العمليات لو تمت “من دون سابق إنذار” للضحايا، فهي تقع ضمن إطار الشرعية الدولية.
كانت كازاخستان آخر الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي (1991)، وهي دولة متعددة العرقيات يشكل الكازاخ (القازاق) نصف سكانها، إضافة إلى الروس والتتار والإيغور والأوزبك والأوكرانيين، يدين 70% من السكان بالإسلام، و20% بالمسيحية الأرثوذكسية.
يحتل الصراع القبلي موقعاً مهماً في الأحداث السياسية في كازاخستان، وكذلك الصراع بين القبائل ومثقفي المدن الذين يشكلون الأحزاب السياسية، وباستثناء الحزب الحاكم تعتبر الأحزاب السياسية هامشية وليس لها أثر حقيقي في الحياة السياسية.
بعد الاستقلال، وعلى غرار جميع الدول التي نتجت عن تفكك الاتحاد السوفييتي، اعتمدت كازاخستان النهج الاقتصادي الرأسمالي الليبرالي.
عانت الدولة الناشئة من أزمة اقتصادية حادة ما بين الأعوام 1991- 1994، حيث انخفض الناتج القومي بشكل كارثي، ما دفع البلاد إلى الاستعانة بالبنك الدولي وتوقيع اتفاقية مدتها 25 عاماً.
اعتمد برنامج “الإصلاح” الاقتصادي على الخصخصة، ما أدى إلى تحول جوهري في ملكية مؤسسات الدولة نحو القطاع الخاص.
أدى برنامج الإصلاح الاقتصادي إلى تحسن لافت في الأداء الاقتصادي، إذ وصلت نسبة نمو إجمالي الناتج المحلي إلى 9.6% في العام 2000، ولتستمر في الارتفاع حتى 10.6% في العام 2006.
بدأ الأداء الاقتصادي بالتراجع ابتداء من العام 2007، وذلك لعوامل عديدة منها انخفاض سعر النفط الذي يشكل 55% من إيرادات الموازنة الكازخية، والأزمة الاقتصادية العالمية 2008، وانتشار الفساد وسيطرة القطاع الخاص والشركات الأجنبية على مفاصل الاقتصاد.
أدى هذا التراجع إلى تخفيض سعر العملة الكازخية (تينغ) أمام الدولار مرتين؛ 19% في العام 2014، ثم 22% في العام 2015.
يعتبر الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الرئيسي لكازاخستان، إذ يستحوذ على 33% من التجارة الخارجية الكازاخية، مع تنامي في العلاقات التجارية مع روسيا والصين بشكل مطرد، وتبدي الصين اهتماماً خاصاً بالاستثمار في قطاعي النفط والصناعات الاستخراجية الكازاخستانية.
في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية، الناجمة عن وباء كورونا وتعطل سلاسل الإنتاج والتوريد، وارتفاع أسعار الغاز المسال بشكل غير مسبوق (400%) قامت الحكومة برفع أسعار الغاز المنزلي بنسبة 150% ما أشعل فتيل الاحتجاجات في بعض المدن.
كان من الممكن تسويق أعمال الشغب على أنها جزء من الاحتجاج على رفع الأسعار، لولا تسرع الأطراف الخارجية في محاولتها قطف ثمار هذه الاحتجاجات وإسقاط النظام الذي تعتبره موالياً لروسيا.
خلال ساعات ظهر في الشوارع مسلحون مدربون، ينتمون إلى تنظيمات إرهابية سبق لها القتال في سورية والعراق، وتحولت الاحتجاجات الشعبية إلى مواجهات مسلحة مع الجيش والشرطة. لم يكن هذا التسرع وليد سوء تقدير من الأطراف الخارجية، ولكنه جاء إدراكاً منها بأن موسكو ستتحرك لاحتواء هذه الاحتجاجات.
سوء التقدير كان في عدم توقع حجم وسرعة وفعالية التدخل الروسي.
لقد استفادت روسيا من دروس التجارب الماضية؛ في العراق ليبيا وأوكرانيا، وسورية، لذلك جاء رد فعلها سريعاً، وخلال 72 ساعة كانت القوات الروسية تباشر عملها في العاصمة نور سلطان وتستعيد الهدوء، وتوقف عدداً كبيراً من المسلحين.
بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مثّل الحضور الروسي متغيراً أعاد ترتيب أوراق اللعبة في منطقة أوراسيا بشكل يتناقض تماماً مع مصالح الطرفين.
لم يقتصر ذلك على الوضع في كازاخستان ولكنه كان رسالة حادة اللهجة فيما يتعلق بالمخططات الغربية في أوكرانيا.
علمتنا دروس التاريخ الحديث، وآخرها الدرس الكازاخستاني، أن دخول برامج الخصخصة ووصفات اقتصاد السوق الليبرالي إلى أي دولة، يحمل في طياته الفيروس الرأسمالي المخرب للأوطان حتى لو تحقق بعض الانتعاش في البداية.
الأزمة تولد في اليوم الأول لقبول وصفات المؤسسات المالية الدولية، أما توقيت انفجارها فهو رهن بظروف محلية ودولية.
أمتنا تخرج اليوم من أزمة “الربيع العربي” ونتائجه الكارثية، فهل نستوعب الدرس ونعيد بناء وطننا بسواعدنا وقدراتنا حتى لو كانت هي الطريق الأصعب والأطول؟
كاتب من الأردن