قدُّكِ الميّاس يا حلب!

يقولون: “مَن سَمِعَ الغناءَ على حقيقتِه…مات”! والموتُ هنا أجملُ أنواع الموتِ -إن صحّ الوصفُ وإنْ شَطَحَ الخيال- لأنه الموتُ طرباً بالصوت النقيّ، وانتشاءً بالموسيقا السابحة مع الجينات، لأنه خفقانُ القلوب على إيقاعٍ كونيٍّ يجعل مساماتِ الجسد تتفتّح على مداراتِ كواكبها، ويُفيّقُ منمنماتِ الأرواح فيجعلها تتناغم وتتعاشق على إيقاعِ تنفّسِ الكون.
هذا ما يحصل معي شخصيّاً، وربما يحصل أيضاً لمحبّي الطرب الحلبي؛ عُشاقُ صبري مدلّل أحد أشهر “شيوخ كار” النّغم الحلبي، و”محمد خيري” ملِكُ الموّال السبعاوي، وصباح فخري “صنّاجة العرب”، وكل عمالقة “القدود الحلبية” الذين أبهجوا الملايين؛ فهي رغم ما يقال عن أصلها السرياني أو ما يشاع عن إنها أندلسية الهوى.. لكنها ليست نوعاً موسيقياً دخيلاً على نسيجِ مدينةٍ شربت الغناءَ مع مائها، وزرعتهُ في الزوايا والتكايا والحنايا مثل شجر الروح، ولا هي بالـ”هجنة” النغميّة النافرة التي تضرب بمقارع السخافة على أسماعنا، بل هي ترجيحُ كفّة ميزانِ النّغم نحو أصالة مدينةٍ أبدعتْ من رحِمِ زمانها ومكانها لونَها التطريبيّ المميز فصارت تُكنى بـ”حلبْ أمّ الطرب”، وصارَ هو مقياس التغزّل بـ”قدّها” الميّاس وقوامها وقيمتها، وأثّرَ في العديد من الملحنين مثل عبقري الموسيقا العربية بليغ حمدي حينَ جعلَ العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ يصدَحُ منتشياً ومتأثراً بالفولكلور السوري الحلبيّ: “قدُّكَ الميّاس يا عمري/ أيقظَ الإحساس في صدري/ أنتَ أحلى الناس في نظري/ جلّ مَنْ سوّاك يا قمري”.
ولذلك ولأجلكِ يا حلب، ولعينيكِ أيتها “المدينة المبدعة” يا ولّادة العظماء، يا مَنْ أهديتنا قدودَك مُعادلاً وجدانيّاً لقلعة حلب فجعلتنا ممسوسين عشقاً بكِ… لأجلِ ذلك كلّه نُحضّر أنفسنا وأرواحنا للاحتفال بيوم “إعلان تسجيل القدود الحلبية على قائمة التراث الإنساني في اليونسكو” يوم 17 من هذا الشهر.. ونغنّي معك:
“فوق إلنا خلّ”، و”عالروزنا”، و”يا مال الشام”.. ونترك القلبَ يرقصُ فرحاً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار