“رجل المرآة”.. السّارد المغيّب الذي أراد له الاحتلال الصّمت !

قاطعاً الشّك باليقين ومغلقاً كل الطّرق أمام السّؤال الأوّل الذي يخطر على البال، هل هذه الرّواية رواية سيرة ذاتية أم إنّها مستوحاة من أحداث أبطالها أشخاص آخرون، يفتتح يوسف حطيني روايته “رجل المرآة” الصّادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب، بالتّصريح: رجل المرآة ليس رجلاً أعرفه، ليس رجلاً صادفته في زحمة الحياة.. رجل المرآة هو أنا.. أنا بشحمي ولحمي ودمي، أنا المؤلّف أنا يوسف حطيني، ولستُ السّارد الشّاهد أو المراقب، أنا السّارد المغيّب الذي أرادت له النّظرية الصّهيونية أن يصمت، أو أن يقول: أنا لستُ موجوداً”، مضيفاً: هكذا من دون لبس، أعترف بوصفي ناقداً أكاديمياً وباحثاً بأنّني موجود في أتون الرّواية، موجود بقوّة الفعل الكتابي، من دون مواربة، أحضر في مقاطع الرّواية لأنتزع من السّارد جدارة الحكي، وأتدخّل على غير عادة المؤلفين غير مستمع لنصائح كنت أسديها بنفسي لمن يكتب الرّواية.

وبرسالة اعتذار من “نسيم” لزوجته “سارة” تبدأ الحكاية.. رسالة يفكّر “نسيم” بعدم إكمالها لكنّها تفرد أوراق كثيرة فهو الزّوج المغلوب على أمره والخائن حديثاً لزوجته الماكرة الغانية الرّخيصة مع “بانينا” سكرتيرة الطبيب النّفسي الذي يزوره، زوج صهيوني يجري مقارنة بين عشيقته وزوجته التي يخافها ويخاف حملها، ولكن ما بيده حيلة فهي ابنة العقيد الصّهيوني الذي يخدم في وحدته ولا يمكنه أن يدوسهما كصرصارين قذرين على حدّ قوله: تباً لكِ وله ولي وللجنين الذي تنتظرينه وأنتظره.. وأخشاه!
يخافها لكنّه لا يقلّ عنها قذارةً فهو لم يستطع مغادرتها على الرّغم من نصائح جدّه الذي كثيراً ما زاره طيفه وقطع خلوته وشروده وحدّثه ونصحه بتركها والتّحلي بالقوّة، نعم لم ينجح في التّخلص من قذارة بنت أبيها التي يستخدمها لكي توقع بشباكها أعتى المناضلين الفلسطينيين في سجونه “مؤيد الشّيص” الذي يقترب من إتمام عامه الخمسين، قضى نصفه في سجون احتلال لم يستطع على الرّغم من سنوات ظلمه وقهره أن يقتل طفلاً في جسد رجلٍ يشتاق لأمّه ويحفظ أغانيه كما لو أنّه في حضنها تمسّد شعره وتدندن حتى يغفو، في هذا الصّمت ينطلق صوت حزين مردداً: “هيه ياسجّاني.. هيه ياعتم الزّنزانة.. عتمك رايح.. ظلمك رايح.. بسمة بكرة ما بتنساني”.. يتوحّد صوت الرّفاق ويسكته السّجان بإطفاء الأنوار.
يعود “الشّيص” إلى اللحظة ويفكّر كيف لـ”سارة المرزاحي” أن تكون ضحيّة وهي ابنة العقيد المعروف في جيش الاحتلال وفي أي لحظة يمكنه أن يلقي بأي فلسطيني في هذا المكان المظلم من باب الاحتياط والأمن الوقائي، يقول: مسكينة مثل “عوفاديا” الذي يذيقنا صنوف العذاب في هذا السّجن الرّهيب… هاهنا يموت السّجناء المرضى من دون أن يهتم بهم أحد”.
استفسارات وحقائق فكّر بها “الشّيص” وصرّحت بها “سارة” حين تحدّثت عن نفسها: رائحة أهل عنبتا تصل إلى أنفي مثل وخز الإبر، لكن والدي يطلب مني أن أقترب أكثر وأن أكون فريسةً سهلةً لهؤلاء الشّبان الذين أكره رائحتهم ليكونوا بعد أيام فريسة سهلةً لوالدي الذي يرغب في معرفة كلّ شيء عنهم.. منذ بضعة أشهر أعطاني اسم صيد جديد.. الشّيص في سجن جنيد.
في هذا السّجن تختلط الحقائق والوقائع والشّخصيات والمقاربات والمقارنات والإسقاطات، وتفرحنا الأخبار على الرّغم من قساوتها وبشاعتها.. نتذكّر مع “الشّيص” أوّل مرة دخل فيها الزّنزانة، وكيف قادوه طول الطّريق معصوب العينين ومن بعدها قادوه إلى غرفة التّحقيق عبر ممرات يسمع منها أنيناً وصراخاً وألماً وكيف رأى خيوط دمٍ تتسرّب تحت أبواب الغرف، ونرى “سارة” تجلس قبالة السّجان الذي يتمناها في قرارة نفسه لكنّها ابنة العقيد “دوف” وهي في مهمة محددة، وهنا لا ينسى الرّاوي أن يلقي الضّوء على معاناة الأسيرات الفلسطينية، يقول: لقد رأى الكثيرات في السّجن لكنهنّ لسن مثل سارة، رأى في سجن النّساء فلسطينيات لا تشبه عيونهن عيون سارة.. فقد كنّ ذوات عيون وحشية يدافعن عن أنفسهن بشراسة وحين تمكّن من إحداهنّ في زنزانتها المنفردة لم يجد فيها سوى جثّة لم تمت لكنّها حين أدركت أنّه سيمتلكها بعد أن قيّدها إلى حديد السّرير، تركت نفسها جثّة باردةً، تلمّسها، ثمّ جسّها، ثمّ تركها، لاعناً شاتماً صارخاً: هل يمكن أن أضاجع جثةّ هامدةً؟

حتّى في لحظات الإعلان عن الإفراج عن بعض المعتقلين، تتمرجح المشاعر حزناً وفرحاً، يقول الرّاوي على: الكلّ يغنّي الكلّ يودّع.. هؤلاء هم إخوتي ورفاقي الذين قضيت معهم أحلى أيام العمر وأقساها.. بين هذه القضبان أو في السجون الأخرى.. الوطن كلّه تحت حراب المحتلّ سجن كبير..” لكن خارج هذه الأسوار حياة تنتظر هذا المناضل، أهل وأحبة وأصدقاء ومناضلون يتلهّفون لسماع قصص البطولة والصّبر والنّصر حتى داخل أسوار سجون الاحتلال، في انتظاره حياة جديدة وولادة مناضل آخر..

بانتظاره مؤيد الصّغير ليحمل رايته وأمانيه ولعلّه يحقق ما لم يتمكّن من تحقيقه هو ورفاقه.
في هذه الرّواية لا يلعب يوسف حطيني على اللغة ولا يباغتها ولا يراوغ فيها، بل يمضي بها كما تملي عليه المشاعر والحقيقة والحدث، وتصل إلينا صادقةً مفعمةً بالفرح والحزن والقوّة والرّهبة، مدعّماً إيّاها بوسائل أخرى غير مألوفة كثيراً في الرّواية الحديثة، كاستخدام الصّور مثل صورة الطّفل فارس الذي قتله جنود الاحتلال مع باقةٍ من أصدقاء وتلاميذ في المدرسة وصورة لبطاقة الدّعوة إلى زفاف مؤيّد الشّيص (ص 231)، ونراه يوثّق لحقائق تخصّ القضية الفلسطينية، وينوّه بالاقتباسات كقوله إنّ معظم حكايات الفصل الحادي عشر الذي جاء تحت عنوان “قاب الفجر” مأخوذة من كتاب مؤيّد عبد الرّحيم عبد الصّمد الشّيص ـ من وراء الشبك ـ بطل الحقيقة والرّاوية.
يقسّم حطيني روايته إلى أحد عشر فصلاً، مانحاً كلّ فصل عنواناً من وحي الحدث الأساس له، وكما ذكرت سابقاً يصرّح بوجوده الحقيقي في الرّواية، لكنّه فعل أكثر من ذلك داخلها، فقد أقحم نفسه في الحوارات، كالحوار الذي دار بين نسيم وجدّه حول ما قدّمه الاحتلال من مزاعم وتشويه للحقائق وحين يسأله نسيم من أنت، يجيب: أنا الرّاوي.. وفي حوار آخر يقول: سأنهي الرّواية كما أشاء، لكنّني لا أتّحدث عن الورق سأعود ولن أكون وحيداً في المرّة القادمة فهذا البيت لي.
يذكر أنّ الرّواية صادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب 2020 وتقع في 272 صفحة من القطع المتوسّط.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار