لا جمالَ بلا غموض .. هكذا تستدرجني رائحةُ القهوة للتفكير في الفرق بين فنجان القهوة الخزفيّ والكأسِ الزجاجيةِ التي أشرب فيها قهوتي الصباحية.
سطحٌ أسود يبينُ من الفنجان الأبيض، فيما مكنوناتُ الكأسِ الشفّافةِ واضحةٌ للعين! انعكاسٌ لموجوداتٍ محيطةٍ تتأرجحُ على الرغوة الطافية على وجه الفنجان/ فيما كينونةٌ كاملةٌ مسكوبةٌ في الكأس! جسدُ الفنجان صُلبٌ وقاسٍ؛ جَسَدُ الكأسِ رقيقٌ وقلبُهُا شفوق!… ولكنْ أليسَ الغموضُ التباساً في الشكلِ كما أنّه التباسٌ في المعنى مسبقاً، أم هو غَلالةٌ خفيفةٌ في الرؤية تمنح نفسها في شكلٍ ملتَبَس؟.
الرائحةُ جزءٌ حميمٌ من غموضِ المعنى الكامن في القهوة، فهل يمكن أن “نفكِّرَ” بالقهوة من دون استحضارِ رائحتها حتى قبل أن نستمتعَ بطعمها؟
أفكّر: رائحةُ القهوة هي المعنى والرؤية إذاً؛ الطعمُ هو التباسٌ وغموضٌ ووعدٌ مؤجّل.. أعدّلُ قليلاً:
رائحةُ القهوة لُبٌّ وجوهرٌ؛ الطعمُ هو قولٌ على قولٍ، تفسيرٌ جديدٌ، بل “حَدَثٌ جماليٌّ” يبزغُ كلّما لامستْ شفاهُنا حرْفَ الفنجان.
رائحةُ القهوة تاريخٌ سِرّيٌ لِما لا يُقال؛ الطعمُ هو كشفٌ وفضحٌ، بل هو بوحٌ وانعتاق، رائحةُ القهوة ذاكرةٌ للعيش في قلبِ محبّيها، وتأريخُ النبوءاتِ للناطرين على حافّة الغيمِ حتى يهطلَ القلب، وتخمينٌ للمستقبل المأمولِ في كفِّ الغيب.
لكنّي أزيدُكم بالاعترافِ أنني لستُ من محبّي القهوة أبداً، لكنَّ طعمَها بالنسبة لي هو العيشُ ذاتُه، استباقٌ لمرارةِ المفاجآت التي لا تنتهي، وتوقّعٌ للخيباتِ الواقعيّة في زمنِ التصريحات “السلبيّة” و”الزيوتِ الإيجابية”، وتحضيرٌ لاحتمال أحزانِ فقدانِ الأحبّة، وتصبّرٌ على قلّة الحيلة عند فقراءِ هذا الزمان… وكلِّ زمان.