قتيبة معمو في معرضه “فن بلا حدود”: تجليات عبور صادم ضد واقع مرير!

إشكالية العبور، قدريةٌ وليست قراراً!. تلك الانقلابات التي تهزّ المسلّمات من الجذور، تبدو قضاءً وقدراً بالفعل، خاصة عندما نربطها بمرجعيتها الفطرية حيث يغيب التكنيك لصالح الصدق وتُمارس المهارة بشيء من الجنون!.
في هذا الفضاء، يمكن أن أسمي معرض الفنان قتيبة معمو في دار الأوبرا بدمشق، والذي حمل عنوان “فن بلا حدود” بعنوان آخر هو “فن العبور”، وتلك مسألة ترتبط مباشرة بالبعد اللوني غير المتوقع لأعمال قتيبة، وشدة الصخب في رسم البوتريهات التي نراها وهي تشبّ عن الطوق فتخرج من إطار اللوحة كأنها تشق عصا الطاعة على التخييل الراكن لأسلوبية عهدناها منذ زمن طويل وحفظنا تفاصيلها من كثرة ما كرّرها الفنانون.. نعم، نحتاج فناً يهزنا من الجذور، بعدما تم استئصال المخيلة في نخاسة التسويق وبات التعبير المتمرد مسألة نادرة جداً لن نراها عند كثيرين سلخوا جلد لوحاتهم وانساقوا مع ما يودّ الآخرون قوله وليس تلبية لندائهم الداخلي فكرياً وشعورياً!.
الاستناد إلى حجر أساس في المعرض كعرض فيلم “الحدود” قبل مشاهدة اللوحات، بدا غريباً بالنسبة لكثيرين، لكنها مسألة شخصية مبررة للفنان الذي حلّق كثيراً حتى غاب عن موشورات العين فكان بحاجة إلى خيط يربطه مع الأرض كعامل مساعد حتى للرائي كي يقتفي ببصيرة مسار اللون، فلا يقتله التهويم وتلغيز الاحتمالات، بل يستطيع أن يسترشد دائماً بهدي هذا الرابط الواقعي الذي حمل معنى العبور الجغرافي ليصبح تخطياً وتجاوزاً من نوع آخر يتصل بالفكر والمشاعر الحرة التي لا تروضها الكلاسيكيات..
لا يرسم قتيبة كائنات خرافية، لكنها وجوه ملونة من الداخل، لهذا تتولى التعبيرية والتجريد تلك المهمة، فتزيح جغرافيا الوجوه من أمكنتها المعتادة وتضع العلامات المفاجئة مثلما حصل من مفارقات بين “شرقستان وغربستان”.. لقد رسم قتيبة عدة أعمال مستوحاة من الفيلم، وكأن أقساها صندوق البريد الذي لم يستقبل أي رسالة طوال العرض.. كأن قتيبة يتولى عملية ترويض اللون وإعادته إلى طفولته ومادته الخام قبل أن يطلقه من سبطانات العصارات والدلاء، كي ينسيه كل التعديلات المكتسبة التي لحقت به خلال عهد طويل من الرسم.. في هذا كله، تبدو محافظة قتيبة على طفوليته في التعامل مع اللون والخط، عملية مضنية وصعبة أخفق فيها الكثيرون لأنهم أنجزوها بقسرية أفرغتها من روعة الولادات الطبيعية، وتلك ميزة تعدّ ركيزة قوية في أعمال قتيبة ليس في هذا المعرض وحسب بل في تجربته بشكل عام.. إنه فن الخرافات الذي يتجرأ على الواقع الخرافي من ناحية سيطرة القبح فيه..
يرسم قتيبة العالم باندهاش طفل، وربما إلى هذا تُدين كل تلك الفرادة بين اللوحات، فهو متفلّت من عادات الكبار وغير مشغول بهم.. تلك الأنوات الكثيرة التي تزدهر في داخله وتعمل بشكل باسلٍ ليل نهار، هي التي أعطت صفة القدرية في العبور وهي صفة أوسع وأكثر رحابة ومدى من فكرة تجاوز الحدود.. استناداً إلى كل هذا، يرسم قتيبة بثقة كل ما يحدث في مخيلتنا، أو ما نحاول أن نقوله دون أن نقدر، إنه العبور الماهر إلى ما نحسّه ولا نعرف التعبير عنه، كأن نفكر يوماً برسم بورتريهاً للجمال، وآخر للفجيعة، وأيضاً للسخط والفرح.. ترى كيف سيكون الجنون إذا ما فكرنا بوضعه ضمن كادر كأنه صورة شخصية؟.
سينقذنا هذا الانزياح الذي يمارسه قتيبة من التلاشي، وأعتقد أن أعمال هذا المعرض ليست سوى مقدمة لانقلابات مستقبلية أشد مضاءً من حيث التأثير، وأكثر عسفاً من حيث البطش بالنمطية التي حان تدميرها دون وازع أو شفيع سوى الإبداع وتعميم المتعة بالمشاهدات الجديدة بعدما أصيبت الرؤية البصرية بالمياه البيضاء وباتت العين تحتاج عملية تصحيح للشبكية قبل أن يعمّ العمى وتضيع ضرورات الفن الأصيل.
المهم في هذا المعرض، أننا نعثر على قتيبة ولا أحد سواه، فهو لم يخرج من معطفٍ أو تحتضنه عباءة، بل اختار أن يواجه العالم بالأنا التي لا يشبهها آخر، وربما لأجل هذا كله، استطاعت تلك اللوحات الصعبة، هزّنا من الجذور!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار