الليالي بوصفها صرحاً

تعمد الدول الإمبراطورية إلى إنشاء صروح ضخمة قادرة على البقاء والرسوخ زمناً طويلاً للدلالة على مدى الشأو الذي بلغته (أمجاد) هذه الإمبراطورية أو تلك، والآثار العمرانية ذات الطبيعة الضخمة التي تستقطب الاهتمام في أيّامنا الراهنة.. شواهدُ ماثلة على الشأو المقصود بالإبراز كالأهرامات المصرية، ومبنى الكوليزيوم الروماني, وفي العصر الحديث عمدت القوى الاستعمارية إلى ترسيخ (أمجادها) بصروح ومنشآت تبدو أقلّ شأناً من ناحية الضخامة والإتقان والقدرة على مقاومة عوامل البلى، لكن الغاية واحدة، كساحة الطرف الأغرّ في لندن، وبرج إيفل في باريس، تمثيلاً لا حصراً.
وفي تاريخنا العربي لم يترك المنتصرون الآتون شيئاً يدلّ على ما أنشأه أسلافهم من صروح عملاقة مندرجة في الدلالة على أمجاد مزعومة، لأسباب عديدة, يتصدّرها الاحتمال الذاهب إلى أنّ الآفلين لم يتركوا صروحاً ذات شأن تشير إلى أمجادهم، بالإضافة إلى أنّ المنتصرين في معظم المراحل التي شهدت انهيار إمبراطوريات وقيام سواها، كانوا يعمدون إلى تدمير ما كان أسلافهم قد بنوه, كما حدث لمسح ما خلّفه الفاطميون في القاهرة (الفاطمية)، ومسح ما تركه الأمويّون في دمشق, في حال كانوا قد تركوا شيئاً مندرجاً في السياق الآنف, مع وجود استثناءات قليلة كجامع قرطبة وقصر الحمراء في الأندلس, والجامع الأموي في دمشق، تمثيلاً لا حصراً.
غير أنّ الأثر الذي استطاع الصمود لمختلف عوامل الزمن وعواديه، ومرشّح أيضاً للعبور إلى الأزمنة القادمة هو الأدب بصورة عامّة، الذي نستطيع عدّ بعض أمثلته المبنيّة في خواتيم العصر العبّاسي بمنزلة الصرح العظيم الخالد الدالّ على مدى الشأو الذي أنجزته الذروة الحضارية العربية في مختلف الميادين التي تجاوزت الميدانين العسكري والسياسي اللذين كانا قد دخلا طور الانهيار والانحطاط, قبل إنجاز (ألف ليلة وليلة) بحدود مئتي عام.
كانت (ألف ليلة وليلة) بمنزلة الصرح الدال على الشأو الذي بلغته الإمبراطورية العربية في العصر العبّاسي، وامتداداتها العالمية شرقاً وجنوباً، ثم شمالاً على نطاق محدود؛ مع استحسان التنويه بالحفاوة الثقافية العالمية التي تأتّت لهذا الكتاب الفذّ، وما حظي به من دراسات وإضاءات، وما اجتُزئ منه لجعله مادّة شديدة الجاذبية لمختلف أشكال التآليف السمعية البصرية, ومع ذلك، لا تزال هناك مساحات كثيرة داخل المادّة النصّية للكتاب قابعة في ظلال العصور، وظلال الإهمال الذي تركّز فيها، بعد أن ذهبت عناصر التألّق بألباب القرّاء والمستثمرين الثقافيين، من دارسين وباحثين، وصانعي أفلام ومسلسلات وغيرهم.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار