وثائق الأغاني

يرسم كتاب (الأغاني) صوراً ثريّة شتّى لمختلف الحقب والأمكنة التي جالت فيها قصصه وأخباره، حتى القرن الرابع الهجري الذي شهد تأليف هذا الكتاب الفذ، وما يبدو صادماً من أخبار الحكّام صورهم الفظيعة من خلفاء ووزراء، وولاة، وقادة جيوش، ومقدّمين، وندماء، حفلت بهم المرحلة العبّاسية. لم يكن الحكام يفعلون شيئاً – حسب الكتاب – سوى اللهو, والمزيد من اللهو، والبطش بمن ينادمهم, ويلوذ بهم, قبل البطش بالأعداء الأباعد، إلى الدرجة التي تدفعنا إلى التساؤل بشأن ممارسة الإدارة الفعلية لتلك الحقبة التي شهدت، واحتضنت أوج تألّقنا الحضاري، وأوج إنتاجاتنا المعرفية والأدبية؛ ومن ذلك ما قاله الشاعر بشار بن برد في الخليفة العبّاسي المهدي:
«ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا/ خليفة الله بين الزقّ والعودِ»
لم يختلف أداء التالين عن أداء الأوائل من ناحية الغرق في اللهو والاستغراق في النهل من مختلف الملذّات، تاركين إدارة شؤون الدولة والناس للجواري والغلمان والخصيان, الذين بلغت أعدادهم أرقاماً فظيعة، ولم يقتصر الأمر على الخلفاء، بل جاوزهم إلى المتنفّذين والمقربّين من دوائر السلطة، بحيث أدّى ذلك إلى تدمير مفهوم الأسرة، وتفكيكها، إذ حلّت الجواري محلّ الزوجات اللواتي لم يكن العصر يوليهنّ أيّ قيمة بسبب تعدادهن الكبير الذي كان ينزل بالزوجة إلى مرتبة الجارية. لم تكن الحال هي نفس الحال في العصور الأسبق، إذ يذكر صاحب الأغاني في كثير من أخبار شعراء العرب أنسابهم من جهتي الأب والأمّ، في مسعى لإبراز دور الأم في تربية أولادها، وجعل النسب الأمومي موازياً للنسب الأبوي، أو مضاهياً له في تنشئة الأبناء وتعهّدهم بالرعاية المطلوبة، بينما لم يشهد العصر العباسي مثل تلك العناية؛ لقد عصف ذلك العصر الإمبراطوري بكلّ القيم التي كانت قارّة في الوجدان الجمعي، وتدنّى بالإنسان إلى مستويات مسفّة في الانحطاط، الذي جعل الأنثى أدنى منزلة ، فكانت المرأة تُباع، وتُشترى، وتُهدى، تحت مسمّى الجارية، مهما بلغ مستواها وتحصيلها الثقافي والمعرفي، كان الأبناء أبناء الجواري أكثر مما هم أبناء الأمّهات، وفي مثل تلك الأجواء لم يكن للأسرة الصغيرة المكوّنة من أب وأمّ وأبناء أي اعتبار اجتماعي قائم على استحسان تكثير الجواري والمحظيات.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار