هل يتسع وقت أردوغان لاستدارة أخيرة؟

شهدت العلاقة الأمريكية- التركية توتراً ملحوظاً، وهو غير معهود على امتداد تلك العلاقة، منذ المصالحة التي أجراها رجب أردوغان مع نظيره الروسي في 9 آب 2016، أي بعد محاولة الانقلاب على نظامه التي جرت في 15 تموز من هذا العام نفسه، والحدثان مرتبطان عضوياً، إذ لطالما تكشفت سريعاً لدى الأول -أي أردوغان- اللمسة الأمريكية في ذلك الانقلاب والتي كانت أقرب للـ tuch منها إلى التدخل المباشر.

جاءت التقاربات الروسية- التركية التي أعقبت تلك المصالحة بصورة تشي بأن أنقرة باتت فعلياً تتحضر لتموضع جيوسياسي جديد يأخذ بعين الاعتبار الجوار الجغرافي الروسي، وكذلك حال النهوض التي بدت موسكو من خلاله مسكونة بتحدي السطوة الأمريكية الطاغية بوضوح منذ العام 1991، أقله في فضائها السوفييتي السابق الذي يضم جمهورياتها التي كانت تعيش في ظلال رايتها على امتداد ما يقرب من سبعة عقود، وإلى درجة ما في الشرق الأوسط الذي ينظر إليه الروس وكأنه محطة لا بديل عنها لكسب نقاط في تلك المواجهة تبدو لازمة لتثبيت ركائز ذلك النهوض الذي كان العمل الروسي جارياً على جعله متنامياً ومستداماً، ولربما جاءت السياقات التي حملتها الأحداث منذ صيف العام 2016 فصاعداً لتعزز من تلك الصورة سابقة الذكر، والأرشيف سيسجل محطات لافتة، بدءاً من نصب منظومة صواريخ “إس400” الروسية على الأراضي التركية، مروراً بالتوافقات الروسية- التركية في سورية والتي أنتجت -بعد انضمام إيران- مساراً سيعرف باسم “مسار أستانا” لحل الأزمة السورية، ثم وصولاً إلى المناكفات التي اعتمدتها أنقرة لاحقاً مع الاتحاد الأوروبي، والتي تمظهرت، أكثر ما تمظهرت، بالتهديدات التي أطلقتها أنقرة بترك حبل موجات النزوح على غاربه.

بشكل ما استطاع النظام التركي في غضون مراحل حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب 2017- 2021، والتي اتسمت في كثير من مظاهرها بمحاولة احتواء تركيا بدلاً من الذهاب نحو التصادم معها، تقمص الدور الذي يتيح لذلك النظام فرصة اللعب على التناقضات القائمة ما بين موسكو وواشنطن، وهو ما أتاح له تعزيز دوره في الشمال الغربي من سورية، وفي ليبيا، ثم في شرق المتوسط وبحر إيجة، وصولاً إلى الصراع الذي احتدم في إقليم ناغورني كره باغ العام الفائت.

مثل هذا لم يعد قائماً بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة في واشنطن مطلع هذا العام، فالأخير سبق له أن توعد أردوغان في حملته الانتخابية باقتلاعه من السلطة حال وصوله إليها، وتراجم الفعل لم تتأخر، ففي خطاب تنصيب أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي الحالي، تحدث عن تركيا بوصفها “شريكاً إستراتيجياً مزعوماً لا يتصرف في نواح كثيرة كحليف”، وفي الأسبوع الأول من شهر شباط الجاري طالب 54 من أعضاء مجلس الشيوخ الرئيس بايدن باعتماد نبرة أقوى مع نظيره التركي، مثل هذه المواقف تشي بأنها أول الغيث في هطل قادم سيكون أعلى في الوتيرة التي سيشهدها بالتأكيد فيما لو ظلت المواقف التركية هي نفسها في ملفات عدة مثل صواريخ “إس400″، والعلاقة التركية مع حلف شمال الأطلسي المهددة بمزيد من التوتر بفعل الملف الأول.

لربما أدركت تركيا، مع وصول بايدن للبيت الأبيض، صعوبة الاستمرار في النهج السابق، ولربما تشير العديد من التصريحات التي وردت على لسان مسؤولين أتراك من الصف الأول مؤخراً إلى احتمال أن تذهب أنقرة إلى استدارة تكون على الطرف النقيض من استدارة آب 2016 سابقة الذكر، فوزير الدفاع التركي خلوصي آكار كان قد عبر قبل أيام عن استعداد بلاده التفاوض مع الولايات المتحدة حول صفقة “إس400″، فيما تحدثت وسائل إعلام غربية عن إمكانية تخلي أنقرة عن تلك الصواريخ إذا ما أوقفت واشنطن دعمها لـ” قوات سوريا الديمقراطية ” في سورية، والمؤشران السابقان يحملان الكثير من الواقعية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التهتكات التي يشهدها الاقتصاد التركي على وقع العقوبات الأمريكية والتي بلغت حداً لافتاً في الإجراءات التي اتخذتها واشنطن مؤخراً ضد “خلق بنك” الذي يعتبر أحد أكبر المصارف التركية، بل شرياناً لا غنى عنه في دورة الاقتصاد التركي.

كل هذا يرجح حدوث استدارة تركية باتت مرتقبة قريباً، لكن أردوغان لن يستطيع التراجع من دون فقدان ماء وجهه الذي يعني هنا فقدان ماء وجه النظام برمته، والسؤال الأهم الذي تفرضه معطيات عدة هنا هو: هل يتسع الوقت لاستدارة أردوغان الأخيرة؟.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار