من الهازل الكبير الجاحظ إلى اليوم.. فن السخرية كنسائم صيفية في الليل التراجيدي الطويل
تشرين- علي الرّاعي:
الهجاء على ما يرى الكثير من النقاد، هو الجذر الأقدم لفن السخرية في تراثنا الثقافي، الذي بدأ أولاً في الشعر، ثم انتقل إلى إطاره الثقافي الأوسع على يد الهازل الكبير الجاحظ، الذي يُعد كتابه “البخلاء” كتاباً اختصاصياً في فن الهزل الاجتماعية، وتلا الجاحظ أبو حيان التوحيدي، كما تندرج المؤلفات النثرية لأبي العلاء المعري أيضاً في إطار السخرية التراثية.. أي أن فن القصة الساخرة بشكله المعاصر له جذره الواضح العميق في تراثنا النثري.. وأذكر فن القصة باعتباره إلى حدٍّ بعيد بقيت السخرية من معالمه إضافةً إلى ما تيسر من الشعر..
ثلاثة أجيال لفن القصة الساخرة قبل التوقف الكبير
الطابع الفرداني
لكن ورغم هذا التراث البعيد في فن السخرية، بقي هذا الاتجاه يأخذ الطابع “الإفرادي” أو الفرداني في مسيرة القص الساخر سواء في سورية، وحتى في مختلف مناطق العالم العربي، وكذلك في مختلف أنواع الإبداع – الرواية، المسرح، الدراما، والشعر- الأخير الذي كان ساحة السخرية الأولى..!
غير أن اللافت أيضاً، صدور أعداد كبيرة من المجموعات القصصية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لتبلغ ذروة الصدور في عقد التسعينيات، أغلبها يميل نحو اللون الساخر، ثم ليتراجع السرد القصصي بشكلٍ عام مع بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، هذا اللون – الساخر- كانت له رموزه فيما مضى، نذكر منهم: حسيب كيالي، سعيد حورانية، وزكريا تامر من جيل الرواد، والذين تتلمذ على أيديهم الكثيرون من المميزين نذكر منهم: حسن م يوسف، والراحلين: وليد معماري، وتاج الدين الموسى، وآخرون.. ثم جاء جيلٌ تالي كثيراً ما نهج على منهج أسلافه مع بعض التميز، غير أنها تجارب توقفت تماماً، وكأنّ أصحابها قالوا كلَّ ما عندهم منهم القاصون: علي صقر، معروف معروف، وأسامة حويج العمر، وآخرون أيضاً.. توقف الأمر هنا بشكلٍ يُثير الكثير من التساؤلات.!!
القصة القصيرة بشكلٍ عام رست في خواطر القصة القصيرة جداً
قطار القصة المعطل
ومن هنا فلا مجال للحديث عن ظاهرة السرد القصصي لا في سورية، ولا في غيرها من الدول العربية، ذلك أن هذا العدد من القاصين، وكذلك من الإصدار القصصي الساخر، ليس كافياً من حيث العدد، ومن الناحيتين النوعية والكمية لتشكيل ما يُسمونه “ظاهرة” وحسب ما يرى الكثير من النقاد، فإنّ الظاهرة لتكون كذلك لا بد أن تخرج بنفسها عن النسق كله وعن مساره، أو تكون المسألة في حالة انحسار قبل تسميتها بالظاهرة، وتصير ظاهرة حين تنتشر وتزدهر، ومن هنا يدرج الناقد صلاح صالح في الميل السابق، أو التنامي السابق باتجاه الكتابة الساخرة ضمن مستويات رئيسة تندرج من الأقل اتصالاً بفن السخرية إلى الأكثر تجسيداً فنياً لها.
ثمة خمس مستويات لفن القصة الساخرة قبل الخواتيم المحزنة
مستويات السخرية
نجد المستوى الأول لدى عدد من كتّاب القصة الذين لم يؤثر عنهم كتابة القصص الساخرة، لكن بعض قصصهم جاءت قريبة بشكلٍ ما من جو السخرية، والمستوى الثاني تمثل بتناول بعض مظاهر القبح في الحياة الاجتماعية السورية، والثالث تمثل فيما يمكن تسميته “كوميديا سوداء” مكتظة بالأجواء الكابوسية، وبتغليب الطابع الذهني، والميل إلى التنميط، فيما تمثل المستوى الرابع في قصص مجموعة من الكتاب الذين يمتلكون الموهبة والميل إلى السخرية والقدرة على سبر أغوار الحياة الواقعية، وإتقان التنقيب عن بعض العيوب الخفية التي تستطيع أن تطرف أحياناً، وأن توجع وتؤلم في معظم الأحيان، وأما المستوى الأخير، فنجده لدى مجموعة من الكتّاب الذين يسمون ما يكتبون أدباً ساخراً، ويتعمدون أن يقع نتاجهم في إطار الأدب الساخر من دون أن يتأتى لهم ذلك بالضرورة.
تراجيديا شاملة ألمّت بالإبداع العربي فوقع بالولولة والتجهم والمناحة
العطب الكبير
غير أنّ المحنة في فن القصة الساخرة، وهي محنة أصابت مسيرتها، وتكاد اليوم توقف قطار رحلتها عند آخر محطة وصل إليها.. وقد تجلت هذه المحنة في أمرين: الأول: إنّ فن القصة القصيرة – بشكلٍ عام وليس فن القصة الساخرة فقط – أصابه عطبٌ ما.. هذا الفن الذي انتهى اليوم – أو يكاد – عند خواطر القصة القصيرة جداً، والتي بدورها وصلت إلى مرافئها الأخيرة، وفي هذا لنا عودة للحديث عن أسبابه.. أما تجلي المحنة الثاني: وهي أن ثمة (كربلائية) مفعمة بالولولة والمناحة والتفجع أصابت النصوص سواء نصوص القصة القصيرة، وحتى نصوص مختلف الأجناس الإبداعية الأخرى، ولهذا أيضاً حديثٌ آخر في ماهية أسبابه..
وفي ظلّ هذه “المحنة” الإبداعية بوجهيها، بقي فن السخرية أشبه بنسائم صيفية عابرة في ليل وصحراء هذه الأمة الطويل والتراجيدي!!