أقف وسط غرفة أمّي كمَن مسَّهُ الحبُّ فذاب، تغمرني موجاتٌ من الدهشة المفرحة بسبب عاداتها وطقوسها العتيقة التي تشبه بيوت الجدات الطينية وخباياها وحكايات الأّلفة والبساطة والمحبة، وأشعر أن غرفتها وطنٌ مُصغّر.
في زاوية منها؛ هناك قطعةٌ من سوق البزورية أو سوق العطارين حيث أجد خزانةً خشبية معتقة بروائح اليانسون والقرفة وجوزة الطيب و«الشمرة» وصُرَر حبات البركة والسمسم والفانيليا، أكياسٌ صغيرة في جوف كل منها شرارةُ سِحرٍ تصنع لنا منها أقراصَ العيد والفطاير على الصّاج و«الزلابية» المُعشَّقة بالسكّر أو القطر.
في الزاوية المقابلة قطعةٌ من سوق مدحت باشا أو سوق سريجة حيث اجتهدت أمي لترتّب بخبرة فلاحةٍ قديمة «قطرميزات المكدوس» المغرور المخمّر بالثوم والفليفلة وحبات اللوز البلدي، وإلى جوارها ترتاح «قطرميزات الزيتون» بوداعة وهناءة المغمور بزيته المقدّس، ثم هناك «قطرميزات مفلطحة» صغيرة فيها حباتُ حمّص وعدس تنتظر أصابع أمي بحسرة، بينما «قطرميز مخلل الباذنجان» غارقٌ في حموضته المُسكِرة عارفاً أنه منتهى شهوات الجميع.
وهناك خزانة أمي؛ قطعةٌ من سوق الحميدية ثيابها وشالاتها الصوفية والحريرية والقطنية المزركشة بألوان قوسِ قزحِ فرحها بوجودنا معها وحولها، أو سعادتها المؤجلة حتى ترى أولادنا، و «جلّابياتها» الممهورة بسواد أحزانها على من رحلوا وذكريات الأيام التي تُسرق من أعمارنا.
وهناك صورنا على الحائط، كما لو أنني في متحف دمشق للصور الفوتوغرافية جمالياتُ التضاد بين الأبيض والأسود تعطي لعيوننا – أنا وأختي – ونحن أطفال سحرَ الدهشة الأولى و أسرار الروح وسذاجة البدايات.
غرفة أمي وطنٌ صغير كما هي غرف الأمهات كلّهن … ليتنا جميعاً ننظر أيضاً إلى بلدنا كما لو أنه غرفة الأم … لأن أثمنَ شيء في العالم موجودٌ فيه بحضورها وغيابها: قلبُها.