في المُتداوَل
لعلَّ لبعض ما نتداولُ من الأقوال والعبارات الشهيرة، أثراً إن لم يكن ضاراً فهو غيرُ ذي نفعٍ، بل هو في جوانبَ منه عديدةٍ أقربُ إلى احتمال الضرّ، ذلك أنه ربما قيل حين قيل هذا المتداول لمناسبةٍ ما، وكان حصرياً لتوصيف حالٍ معينةٍ لا يتعدّاها إلى غيرها من الحالات، فلا يصلح بذلك تعميمه على المتمايز المختلف من الحالات والأحوال الأخرى التالية زماناً ومكاناً، ولكيلا نغرق كثيراً في التعميم نأتي على ذكر ما يوضح المراد والمقصود بالمثال الواقعي المألوف، من ذلك القول الذي يردده الآخرون عن حسن نية، ولكن عن قصرٍ في فهم مراده، وهو (خيراً تفعل شراً تلقى)، وهذا الكلام إذا فُهِم بشكلٍ عامٍّ مُطلق ساهم في منع أسباب الخير، وربما كان عاملاً كابحاً لكلِّ محاولةٍ ضالَّتُها تقديمُ النفع للآخر، فإذا كان يصحُّ هذا القول لحال تقديم الخير في غير موضعه، أي (من يزرع المعروفَ في غير أهله)، فإنه لا يصحُّ لتوصيف فعل الخير في موضعه، وإن كان فعلُ الخير يدلُّ على فاعله ويشير إلى معدن صاحبه، وعملُ الخيرِ خيرٌ أينما كان وحيثما كان على رأي بشار بن برد:
من يعمل الخيرَ لم يعدمْ جوازيَهُ …. لا يذهبُ العُرفُ بين الله والناسِ.
وتأكيداً على هذه الرؤية الصائبة لشاعر البصيرة ابن بُرد فلا بأس أن نعيدَ أو نراجع رؤانا ونضع الأمور في موازين متكاملة تكون (النسبيةُ) الفيزيائية فيها ذا دورٍ مهمٍّ جداً حين إطلاق الأحكام أو التعامل مع الحِكم التي هي في الأصل وليدة تجارب وثمرة خبرة وحنكة وحياة، ولعلَ من مفاتيح الاِطمئنان والمضيّ بأمان، التبصُّرَ والتأملَ فيما قاله أسيادُ أهل الحكمة والذوق، وفيه ما يكفي توصيفاً، شكلاً ومضموناً ومن جهاتٍ شتى، لمن أراد أن يمشي على (بصيرة) و(يمدَّ رجليه على قدِّ الحصيرة)، فيرى في قليل ما يُقدَّم له كثيراً، وفي كثير ما يقدِّمُ هو قليلاً، يقولُ أسيادُ أهل المعروف والخير والأدب: ( اِفعلِ الخيرَ لكُلِّ من يطلبُ منك، فإن كان أهلاً، وإلّا، كنت أنت أهلاً له).