“جفّت الأمطار”، جملةٌ كانت تضربها بحزن غامض، كلما سمعتها، عامّيةً على لسان أحدِ من وعَت، فيما بعد، أنه يعيش في أرض لها ربٌّ قديم، اسمه “بعل” أو في أدب الرواية، أو فن السينما! “جفّت الأمطار”. “جفّت الأنهار”. “جفّت الآبار”. “جفّت الضّروع”. كانت كلّها كناية عن موتٍ قادم ويباب قابضٍ للنّفس، فالجفاف رهنٌ بشيء يتدفّق ويسيل ويسير حاملاً معه الحياة حيثما حلّ!
تتفقّد البيت بعد غيابٍ طويل. هي في الواقع تتفقّد الأنقاض الميتة التي لا روح فيها من خشبٍ وزجاج وإسمنت وأقمشة وجدران ودهانات وبقايا أُصص وأسلاك وشظايا مصابيح، وكل ما تراه يزيله الخيال، ليعيد المكان إلى ما كان عليه منذ تسع سنوات، حين خرجَت على عجَل تحت القذائف المركّزة على الحيّ والأحياء من البشر والشجر والقطط التي كانت تزجرها كلما تقاطع معها طريق، أما الدوري واليمام الذي كان يتمشى على الأرصفة ليلتقط الخبز المفتّت عمداً ليكون له وليمة، فظنّت أن أجنحته ستحمله بعيداً عن الموت العبثي كما غادرت هي بحماية أحد رجال الدفاع الوطني، ولعلّها شاهدت الكثير منه، فيما بعد، وهي تمرُّ في الأزقة قرب المساجد، أو في الأسواق، أو المقاهي، فخفق قلبها لجيرانها القدامى الذين عششوا وسكنوا وتكاثروا على عتبات النوافذ، وقالت لنفسها بثقة: قريباً سأعود! ولم يأت “القريب” إلا بعد تسع سنوات!
تأسى الجارة الغاضبة في المنزل المقابل، على مآل بيتها جنى العمر وهي تقذف شتيمةً كلما كنست زاوية، وتتفنّن في الدّعاء على الأيدي الآثمة التي خرّبت حياتها وقتلت زوجها وشرّدت أسرتها، بينما تجلس هي في الغرف الصامتة وتحت قدميها ينسحق نبات كان أخضر وصار بلون التبغ العفن، ويتردد في خاطرها: جفّت العروق! ما الذي لم يجفُّ؟ تعزّي نفسها وهي تتّجه إلى أحد الأدراج المصروعة في طاولة الكتابة، وهناك تلمس بحذر وحنين، مسطرة حمراء شفّافة وممحاتين ومبراة وأقلام رصاص متفاوتة الطّول واللّون ثم حزمةً من أقلام الحبر الجافّ! هذا “الجاف” مختلف عن كل جفاف! إنه السيّال بيد صاحبه، حين يريد أن ينطق ويبوح ويسقي وحين يريد أن يخدش ويجرح أيضاً، تستلُّ واحداً وتمرِّره على طرف فاتورة ورقيّة حائلة اللّون، لكنه يترك جرحاً لا حبراً! تعيد المحاولة مراراً دون فائدة! الحبر في مخزنه جفّ بحقّ، وصار مستحيلاً عليه أن ينساب إلى النهايات ليخط على الورق!
كانت الجارة الآن على عتبة البيت تشكو: “حبل الغرام” الذي كان يغطي البيت يبس كلّه ومات! ردّت بأسى وهي تحضن رزمة الأقلام التي اشترتها منذ سنوات لتكتب قصصاً للأطفال: مات شيء لا يمكن إحياؤه، إحياءَ “حبْلِ الغرام” بحفنة تراب وكأس ماء!