اقتداء

مصائبُ هذهِ الدنيا كثيرٌ وأيسرُها على الفطِنِ الحِمامُ
ويبقى كرامُ النفوس في منأى عن الهون والهوان متحصّنين بالصبر، فلذلك ترى واحدَهم رابطَ الجأش صعبَ الشكيمة، يغيظُ بعظمة احتسابهِ، شرارَ اللئام من محبّي الظلم والأذى والشامتين، ومنهم من بلغ في تحدّيه مبلغاً سُعِد به بدل أن يشقى، فكانت الشدة له ملهاةً عن الجزع وفرصةً تحثُّ وتشجِّع على المسارعة لا الاستعجال إلى المضيّ بكلّ حزم وعزم في مقارعتها، فكيف إذا كانت المنازلةُ مشوبةً بالحِلم والعلم والأدب ويا لها من منازلةٍ ساخرة، إنها لغةُ المبصر المعرّي الحكيم أبي العلاء الّذي عزف المصيبةَ لحناً على بحر (وافرِه)، حتى جعل – وهو الفطِن – أيسرَ المصائب على كلِّ ما هي عليه من الوفرة والكثرة، مصيبةَ الموت ولعلَّ أبا فراس الحمْداني – وهو الفارسُ ذو الأناة والحكمة – خليقٌ تماماً بتصوير ذلك، فهو يرى أنَّ من العبثِ توقُّعَ دوام النعم من رخاء وسعة وأمان وجدة، ولعلّه بذلك يتقاطع – أيّما تقاطُعٍ- مع المعرّي الّذي جعل الحِمامَ أيسرَ المُلمّات، وفي كلِّ نازلةٍ تلمُّ بنا لابدَّ من أن نقتدي ونتأسّى بمن سبقونا من أهل الدراية والتدبير، ذلك أنَّ من لم يعتبرْ بأرزاء غيره تصيرُ أرزاؤهُ عبرةً للمعتبرين، فلنتمعن كيف يقابلُ الرجالُ العظامُ الشدائدَ، فيحوّلونها إلى جُنَّةٍ تتكسّر عليها توابعُها فلا يكونُ لها مكانٌ أو فرصةٌ لضرٍّ أو أذى، ومن منّا لم يسمع كيف تزيلُ الأرزاءُ الأرزاءَ حين تكسَّرُ النِّصالُ على النصال عندَ أبي الطيب بن الحسين، فدوامُ الحال من المُحال، وهولُ الأمر أو صغره عائدٌ للمتلقّي ومدى قوّة صبره واحتسابه، والسرور كما انقضى كذلك حتماً سينتهي زمن الهموم والأشجان، فهل نتبيّن في ذلك المَخرَج المنقذ، وهل منقذٌ غيرُ حُسن التدبُّر للمخلص الفطِن غير المشكك أو المرتاب أو الهيّاب لنتائج طاعة النهى، أمّا كثرةُ الشكوى فثرثرةٌ لا طائل منها ولا جدوى تُرجى:
خليليَّ- والله – ما مِن مُلِمَّةٍ
تدومُ على حيٍّ، وإنْ هي جلّتِ
فإنْ نزلَتْ يوماً فلا تخضعنْ لها
ولا تكثرِ الشكوى إذا النعلُ زلّتِ
فكم من كريمٍ يُبتلى بنوائبٍ
فصابَرَها، حتّى مضَتْ واضمحلَّتِ !

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار