الأرقام الصَّعبة
الصندوق الأسود لبنية النظام العالمي على عكس التوصيف تماماً، أبيض شفاف، ومعايير الرأسمالية الليبرالية المتطرفة واضحة جداً فيه.
وأي خطوات لتغييره على منحى تطويري لمنظومة القيم ستصطدم بالتأكيد بـ«العربدة» الأمريكية، فــ(السلاح والمال) مازالا القرار الأول في السوق العالمي اليوم، والعلاقات الدولية في معظمها قائمة على صراعات متوحشة.. أياً كانت التطورات الآنية يبقى الاستفهام الأهم عن إمكانية إحداث تغييرات استراتيجية على مستوى السوق العالمي؟!
من نقطة نظر أخرى لزاوية حادة في الساحة الدولية للشرق الأوسط، والخليج تحديداً، وبعد أحداث التوتر الحاصلة في منطقة الخليج، يمكن التأكيد أن الساحة العالمية باتت تتسع لقوة إقليمية فرضت حضورها دولياً.
صحيفة «العرب» اللندنية تزعم في إحدى مقالاتها أن «إيران تتحرّش بخصومها الغربيين»، والصحيح أن إيران باتت تتعامل بندّية، وهي من القوة لدرجة أنها قادرة على الرد بالمثل على القوى الكبرى، رغم العقوبات الاقتصادية الكبيرة التي صدّرتها واشنطن سلاحاً لمواجهة إيران، فما كان من الأخيرة إلا الاستمرار بتوسيع نطاقها التسلحي الدفاعي.
وحسب المعطيات الجيوبولوتيكية للمنطقة المحيطة بإيران، يجوز تحليل الدواعي الموضوعية لتصدّر إيران الساحة الخبرية، حيث من الممكن أن يكون موقعها الجغرافي، الذي تحيط به دول مشهود لها بعلاقات استخباراتية وتحالفات مع الولايات المتحدة الأمريكية، أن يكون سبباً في الشعور بالتهديد على الأمن القومي الإيراني، وخاصة أن تلك الدول تعاني ضعفاً في استقرارها السياسي، ويمكن أيضاً أن تكون التهديدات الأمريكية المستمرة لإيران قد جعلتها تقع في دائرة مغلقة «لحصارها» الذي جعلها أيضاً في موقع لا يمكن سبر سوقه إلا بقوى عسكرية تتناسب وحجم التهديدات.
لكن مآلات الوضع وطول السجال السياسي والإعلامي المحتدم بين إيران وأمريكا، أثارت حفيظة واشنطن وحرّضت إيران على سياسات تعدها قوى الاستكبار استفزازية، الأصل في منبتها الكيان الصهيوني، فـ«إسرائيل» -بالتواطؤ مع واشنطن- قائمة على جذور عدوانية حربية توسعية، وصحيفة «هآرتس» الصهيونية، في مقال لها بحزيران عام 2000 ذكرت (تخوف «إسرائيل» من «صاروخ شهاب3» 1300كم، الذي يوفر قدرة إيرانية مضمونة لضرب أهداف داخل «إسرائيل»)، أي إن إيران تحت لحظ ساسة الكيان منذ عقود، هذا الكيان الذي يجتهد لتحريض الإدارة الأمريكية تحت ذريعة «حماية أمن إسرائيل»، إضافة إلى النظرة السائدة لأمريكا في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الخليج العربي، بأن العامل الإقليمي فيه بيد الدول الكبرى لعدم قدرة المنطقة على حلّ مشكلاتها وأزماتها من دون الاعتماد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً على العامل الدولي.
وعلى الرغم من أن دول المنطقة تمتلك، إضافة إلى النفط، وما يشكله من نسبة احتياط عالمي مرتفعة، القادر على التأثير وإحداث صدمة للدول الغربية فيما لو قرروا رفع سعر البرميل، فهي تمتلك أيضاً المضائق البحرية المهمة التي تتحكم بالكثير من طرق التجارة والمواصلات العالمية، لكن «الاستزلام» والخضوع لإرادة واشنطن كانا الحل الأسهل لمعظم«ولاة العروش الخليجية»، في حين استطاعت إيران وسورية أن تكونا في زمن الصراعات المتوحشة أرقاماً صعبة، فما استطاعت أمريكا ولا حلفاؤها النيل من صمود الدولة السورية رغم حرب الثماني سنوات عليها، لأنها اعتنقت عقيدة: «ثمن المقاومة أقل بكثير من ثمن الاستسلام»، ولا استطاعت أيضاً العقوبات الاقتصادية والتهديدات الأمريكية كسر إرادة الشعب الإيراني بالتحدي ودخول دائرة الصراع كدولة إقليمية قوية.