مقاومة “مقاومة التغيير”..
يتصدّر مصطلح”مقاومة التغيير“.. واجهة مفردات الردح، المتداولة بيننا بتواتر مريب هذه الأيام..
ومع أنه ليس بوافد جديد إلى قاموس راصدي عثرات العمل العام في هذا البلد، ولاسيما هواة التنظير ومقاربة منهج الفكر التبريري..
إلّا أنّ المقلق أنه تسلل فجأةً إلى مكاتب “العمل العام”.. والمقلق أكثر أنه ترافق لجهة تكرار تداوله، مع “أجندة” جديدة معلنة للتو على مستوى مؤسسات السلطة التنفيذية، بدأت مع الخطوط العريضة للبيان الحكومي.. وتتوالى تفاصيلها غير التقليدية بشكل شبه يومي تقريباً.
تلقّفٌ مريب بالفعل لمفردة “مقاومة التغيير” يجري في أوساط نسق تنفيذي متقدم نسبياً.. أي لم يعد مجرد حالة تجريد معرفي من اختصاص “كلمنجية” إصلاح يستنسخون أنفسهم بغزارة، بل من إدارات مركزية في عمق المكاتب التنفيذية المعنية بمقاومة “مقاومة التغيير”، وهنا تمسي التوجسات مشروعة- بل واجبة- من “جائحة” الهروب مجدداً إلى الشماعات، بعد انتهاء صلاحية شماعة الأزمة، أو الإبطال القسري لفعاليتها بقوة الإصرار المعلنة على اجتراح بيئة عمل عابرة للذهنيات التبريرية، و”دوائر الشيطان” التي رسمت نفسها في أفق هذا البلد.
نفهم ونتفهم أنّ ثمة مقاومة للتغيير إزاء أي منعطف إصلاحي، ولا نظن أنّ أحداً لم يلمسها بشكل أو بآخر في مختلف فصول سفر العمل الحكومي، و نلمسها أكثر في أوساطنا الشعبية، بعائدية وجذور ذات صلة بالموروث، وأعراف تبلورت، كقوانين غير مكتوبة، وباتت أقوى وأكثر فعالية من القوانين والنصوص والتشريعات الموثّقة، في مجتمعات ذات نفحة تراحمية تكترث كثيراً للوجدانيات ..
لكن كم هو مخزٍ أن تبقى بعض ملامحها في تعاطي معنيين بالشأن التنفيذي مع أعمالهم، ويسمحون بانتصار عرفٍ على قانون.
إنه كئيبٌ و مقلق.. أن يعيدَ رجل تنفيذي ما، استحضار ثقل نظرية المعرفة ببعدها التبريري القديم بكل ما فيه من تعلّق بغيض بثوابت ليست ثوابت، ونحن على أبواب مشروع دولة عنوانه “ممنوع الفشل”..!
مقاومة التغيير.. ليست قضاءً مسلطاً، بل هي حالةٌ فطرية خام تستحكم أحياناً بأفراد وأحيان أخرى بمجتمعات.. لكنّ الغريب والمدهش أن يتمَّ الاستسلام لها في مؤسسات وهياكل رسمية على طريقة “لاحول ولا قوّة”.
تنشأ هذه الخصلة اللعينة عادة من الخوف والتردد أمام الجديد، لكن غالباً ما يكون ادعاء الخوف من التغيير المجهول ستاراً سميكاً لإخفاء عدم الرغبة الحقيقية بالتغيير، لأسباب ذات صلة بمصلحة من يعلن صراحة أو يبطن سراً، مناهضة عنيدة لأي شكل من أشكال الإصلاح أو إعادة الهيكلة أو أي تجديد تقتضيه ضرورات ما مهما كانت ملحّة.. أي لن نجافي الحقيقة إن ادعينا أنّ “مقاومة التغيير” اليوم أحد أبرز ذرائع تبرير الفساد أو الإخفاق بتنفيذ رؤى جديدة واستحقاقات بدت ملامحها صعبة بشكلٍ أو بآخر.
الظاهرة خطيرة.. وتستوجب إعادة سبر ذهنيات من توليهم الحكومة مسؤوليات من مختلف المستويات، وهذه مسؤولية الحكومة ذاتها، أن تعالج أوضاعَ من يستسلمون أو يدّعون الاستسلام لخصلة مقاومة التغيير، إن في أنفسهم أو في أوساط الكوادر التي يديرون عملها..
على الحكومة وضع حدٍّ لاستخدام هذا المصطلح التبريري البغيض، ولعلّه ليس مضيعةً للوقت أن تطلب تقارير نصف سنوية من كافة الوزارات، تتضمن قوائم بأسماء شاغلي المراكز الوظيفية ممن تنطبق عليهم “تهمة” مقاومة التغيير، لمعالجة أوضاعهم- إعفائهم- وإن كانوا مستوفين تماماً لشروط “التنمية الإدارية”، وليكن هذا التصنيف شاملاً لمراكز ومستويات أعلى، فلا تتفق إرادة التغيير مع أدوات مقاومة للتغيير، وإن استرخت الحكومة لبعض التناقضات الواضحة في هذا الاتجاه، ستأخذنا إلى ظنون ونبوءات من النوع الذي لاترغب ولانرغب.