حين يتخلّى المثقف عن مهمّته

‏تشرين- ادريس هاني:

استدراكاً لما ذكرت في النّدوة وتفصيلاً بما لم تطله المفهمة، أنّ المثقف هو ‏مفهوم بمعنى «‏concept‏» وليس مفهوماً عاماً بمعنى «‏notion‏»، فلقد كان ميلاد ‏مفهوم المثقف مع قضية مشهودة في التّاريخ الحديث، به نستطيع القول إنّ استقالة ‏المثقف تنزع عنه الصّفة، لأنّ المثقف ليس مخيراً في الاشتباك مع قضايا عصره، ثمّ ‏وعليه فإنّ الميز الغرامشوي بين المثقف العضوي والمثقف غير العضوي ليست ‏بالضرورة إلاّ ضرباً من المجاز، بل هي فكرة تحفيزية لتذكير المثقف بدوره، لأنّ ‏العضوية خاصية بها يقوم مفهوم المثقف.‏
أن تكون شغيّلة معرفياً تنتج أو تعيد إنتاج المعرفة خارج هذا الاشتباك، يجعل الأمر مهنيّاً ‏بالمعنى الذي لا يحيل على الكلفة والزمن الاجتماعيين لإنتاج المعرفة. وبالتّالي، أي ‏معرفة تُنْتَج خارج هذا الكيمياء الحارق، تفتقد الموضوعية وتؤسس للوعي الزّائف، أي ‏أيديولوجيا النابتة الصالونية المستقيلة التي تأبى الحنين إلى حالة الطبيعة حيث تنشط مقولتا ‌‏«أن يفعل» و«أن ينفعل».‏
المثقف المستقيل هو ليس فقط مستقيلاً عن المجتمع والتّاريخ، وهارباً من كُلفة الاشتباك ‏مع واقعه فحسب، بل هو مستقيل عن القاطيغورياس، عن تكامل بحور المقولات ‏الضرورية للنهوض بالمعقول، لن يتحقق وفاء المثقف للمقولة مع هذا الانزياح التعسفي.‏
يبدو المثقف اليوم أمام هذا الاختبار، لأنّ الميدان تجاوزه، ولأنّه بات عاجزاً عن حماية ‏الميثاق غير المُعلن للتنوير، لأنّ هذا المفهوم هو نفسه خرج من مقولته وخضع للوعي ‏الزّائف، الذي يعيد إنتاج مفهوم آخر عن المثقف، المثقف الخائن لمهمّته التّاريخية، فلقد ‏ظهر مفهوم المثقف في قضية فردية تتعلق بالميز، لقد وُجد آنذاك إيميل زولا، الذي عبر ‏عن موقفه في جريدة الفجر، لكن كيف سطا الرأسمال على قيم التنوير، حتى آثر المثقف ‏الصمت حيال الإبادة الجماعية وإظهار الاستهتار المطلق بما هو عرف مؤسس للقانون ‏الدولي الإنساني؟ كيف سيكون وضع العالم غداً حين تشحن ذاكرتنا الجماعية بهذا النوع ‏من السحق الممنهج للقيم الإنسانية؟ وكيف ستستعيد تلك القيم والمواثيق مصداقيتها في عالم ‏البشر؟ من سينتصر في النّهاية، الامتثال للقانون الدّولي، أم ثأر المعذبين في الأرض؟
ولأنّ المثقف آثر أن يلعب دور منيرفا العمياء، أن يخرج متلصّصاً بعد أن ينقلب الكون ‏على عقبيه، ليروي للأجيال حكاية ما وقع مطعّماً ببوازير التشويق، فسيستمر الشّر في ‏العالم. وهذا ما يجعل السرديات الهوجاء تطغى في زمن الانحطاط أكثر من النّقاش ‏العمومي.‏
كان الاختبار الأعظم مع صدور بيان هابرماس، بعد طنين أمّنه الزمن الديمقراطي حول ‏المجال العمومي، المعني بتدافع الرّأي، السّمة الأعظم للحداثة، لكنّه في آخر امتحان ‏انحاز للإبادة بالتبرير.. إنّهم يحاولون اختزال تاريخ المستقبل في قضايا لا يحتملها سياقنا، ‏بل يجعلوننا ندفع ضريبة عنصريتهم وتاريخ أخطائهم.‏

كاتب من المغرب العربي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار