دفاتر قديمة برؤية جديدة
لابدَّ لنا في بلد يعيد ترتيب أوراقه بعد محنة قاسية، أن نعود لتحرّي دفاترنا القديمة في رحلة تصويب راجعة، بما أننا شرعنا بالمراجعات على مستوى المقصورة التنفيذية، واعتمدنا بجرأة خياراً صائباً كنّا قد تأخرنا به قليلاً وفق مقاييس إلحاح الظرف.
الأهم في مجريات المشهد الجديد لتعاطي حكومتنا مع أعمالها، أن المراجعات تتعدى البعد الميكانيكي للعمل التنفيذي، إلى البعد التقني – الذهني في تناول الملفات، على الرغم من صعوبة المهمة ودقتها.. إلّا أنّ ذلك لم يعد خياراً بل هو لزامٌ.
وقد نكون بحاجة إلى الغوص أكثر نحو جذور الخلل، بما يتعدى الظن بالأشخاص وسيَر تناولهم الجاذبة سواء أكان سلباً أو إيجاباً، إلى عمق البنى والهياكل القائمة.. وهذا هو الجزء الأهم من خيار إعادة الهيكلة الذي تلجأ إليه الدول عادة بعد خروجها من الأزمات الكبرى، أي تبدو حكومتنا أمام حزمة استحقاقات لا يمكن وصفها بأقل من أنها دقيقة وحسّاسة، وقد لا نبالغ إن وصفناها “بالمصيرية”، بالنظر إلى تكاثف الاستحقاقات محلياً وتعقيدها في حسابات هذا الزمن.. زمن تراجع من لا يتطور و يواكب بسرعة.
الآن وبما أنّ الحكومة قد عقدت العزم على تشريح الواقع والشروع بمعالجات جراحية، فأغلب الظن أنّها ستفاجأ بمفارقات مدهشة في حنايا كلِّ قطاع، وسيخرج من يعلن استغرابه عن تناقضات كثيرة مسكوتٍ عنها.. لذا قد يكون مفيداً هنا أن نسبقَ من سيعلن دهشته لاحقاً، ونشير إلى نموذج خلل.. وعلّة إخفاق في قطاع نظنه في مقدّم اهتمامات كلِّ مهتمٍ بالتنمية ببعدها القاعدي العميق في بلد كبلدنا، ومن أهم ركائز الاستدامة في المرحلة الراهنة والمقبلة، كما كان في السابق، وهو قطاع “صناعة الأمن الغذائي” بمدلولاته المباشرة والمجازية.. أي قطاع الزراعة.. صاحب سلسلة الألقاب التي أطلقناها عليه وكدنا نغنّيها غناءً .
لم نصدّق للوهلة الأولى.. وفوجئنا بمعلومة كما سيفاجأ بها كثيرون، وهي أن وزارة الزراعة ليست مصنّفة كوزارة اقتصادية، بل وزارة خدمات اجتماعية.. أي أنّ الزراعة وقاطرتها وجوهرها في بلد زراعي.. ليست اقتصاداً..؟!
ولعلّ بداية الخلل من هذا التصنيف، الذي حتّم تحديد إطار إدارة القطاع بأبعاد فنية لا اقتصادية، في وقت نحن بأمسّ الحاجه إلى إدارة اقتصادية للوزارة، برؤية إستراتيجية متكاملة.. هي اليوم ذات طبيعة إنقاذية لا ترفيهية.. وحسبنا أن يُسعفَ المهندسون أصحاب القرار في الوزارة، بمهارات إدارة اقتصادية حاذقة، لكن بصراحة نتردد في الاسترخاء لهذا الجانب بل ونتوجّس، ولعلّنا لا ننتقص بمثل هذا الرأي من الإمكانات العلمية لمهندسي الوزارة، كلٌّ في اختصاصه الفني الدقيق، بما أننا نتحدث اقتصاداً وإدارةً اقتصادية.
فأزمتنا المزمنة هي أزمة إدارة موارد قبل أن تكون أزمة موارد.. أزمة إدارة في حالة النقص اليوم، كما كانت أزمة في زمن الوفرة سابقاً، ولعلّ الأخيرة أصعب وأكثر تعقيداً من الأولى، بشهادة الموارد المهدورة من الحقل إلى البيدر، وقد تكون صادراتنا الخام شاهداً على أحد أبرز أشكال الخلل الذي مازال يعصف بمقدرات هذا البلد، والأمثلة كثيرة..
غير مريحة حالة الجفاء المقيمة في منظومة الإدارة الاقتصادية لدينا، بين المضمار الإنتاجي- الفني، والفضاء الاقتصادي وحساباته المرتبطة بأبعد مما هو محلي ضيق.. وهذه المشكلة تبدو جليّة في صلب وجوهر عمل وزارة زراعتنا، التي لم تكترث تقليدياً للاعتبارات الاقتصادية في عملها، واعتكفت في المساحات الفنية البحتة.
أوردنا الزراعة مثالاً.. وبالتأكيد ليس المثال الوحيد، على أن مشاكلنا لم تعد إجرائية سطحية بل بنيوية عميقة.
بانتظار أن تعلن وزارة الزراعة عن مشروعها، بتفاصيل تتعدى ما سينطوي عليه البيان الحكومي، كيف ستعيد ترتيب الخريطة النباتية وفق أولويات اقتصادية الجدوى، كيف ستحقق الكفاية المحلية، وكيف ستؤسس لمنتج تصديري، ما هي رؤيتها للقطاع الحيواني وكيف ستعيد بناءه بعد التدهور الذي لحق به، ثم كيف ستصلح مكنة الإحصاء المرتبكة لديها.. وحزمة تساؤلات أقلّها بات ملحّاً، وهي محل ترقّب من الجميع..
هامش: ليس نافراً ولا مستهجناً أن تبلور الوزارة فريقاً استشارياً اقتصادياً.. بل قد تكون تلك البداية الصحيحة.