حرفة أخرى تندثر بصمت آخر صانعي الزجاج الدمشقي يصارعون للبقاء
تقارع حرفة نفخ وتشكيل الزجاج اليدوي الدمشقي الموت بشكل منهك ، ولا يبدو أن الانتصار حليفها حتى الآن بالاستناد إلى الأزمات التي تعصف بها ، مع إخماد آخر أفرانها نيرانه والذي يواصل التوقف عن العمل من العام الفائت حتى الآن ، إضافة إلى ندرة العاملين بهذه الحرفة، و غياب المازوت العنصر الأساسي لإبقاء الفرن متقداً لساعات طويلة وفقاً لاحتياجات صناعة الزجاج وارتفاع أسعاره إن توفر .
ورشة أبو أحمد الحلاق المشهورة عالمية تعد آخر معقل لصناعة زجاج دمشق و المتواجدة في خان الزجاج في باب شرقي، حيث تقلص عدد العاملين بها لدرجة لم يبقَ سوى الإخوة الحلاق فقط ممن يمتلكون مفاتيح هذه الحرفة العريقة والذين لم يبخلوا يوماً بنقل خبراتهم إلى من أراد التعلم، ونجحوا بهذه المهمة، لكن ظروف الحرب الإرهابية على سورية أحبطت هذه الجهود مع عزوف من تعلم عن إكمال المسيرة .
يبذل محمد الحلاق أبو نعيم – شيخ كار حرفة نفخ وتشكيل الزجاج- ما بوسعه مع أخويه لإبقاء هذه الحرفة المتوارثة عن أجداده على قيد الحياة ، ورغم تقطع فترات العمل سابقاً و التوقف النهائي حالياً يصرّ أبو نعيم على فتح ورشته والبقاء مبتسماً في ربوع دمشق التي لم يغادرها رغم كثرة العروض الخارجية إذ يشعر أن التزامه أخلاقي و وطني ولا يستطيع أن يخون الثقة التي منحت له، و البقاء حتى آخر نفس يحافظ على حرفته .
وخلال لقائه مع « تشرين» أكد أبو نعيم أن نقص الدعم على المحروقات وارتفاع ثمنها وغياب السياح الوافدين نتيجة الحرب على بلدنا كبّل الجهود لاستمرار هذه الحرفة وجعل آخر صانعي الزجاج اليدوي في سورية يجاهدون للبقاء.
و أوضح أن ورشته لم تعد تقدم كل أنواع المشغولات الزجاجية كما كان سابقاً، وما تبقى من الإنتاج هي كؤوس ملونة مزخرفة وبعض الزبادي والثريات التي صنعت في السنوات السابقة ، ويقول : لم نعد ننتج القطع الكبيرة لأن الفرن الكبير يحتاج إلى مايقارب ٣٠ مليون ليرة شهرياً ثمناً للمازوت فقط ما يعجز عن تكبد تكاليفه، مضيفاً : إنه انتظر ما يقارب ٣ أشهر للحصول على موافقة المازوت التي بلغت ٢٥٠ ليتراً، والتي لاتكفي لإشغال الفرن الصغير مدة تسعة أيام .
يأسف إلى الحال التي وصلتها حرفته، ويستعرض تاريخاً عريقاً كان أجداده جزءاً أساسياً منه ، وكيف علّمته حرفته الصبر والقوة ليتمكن من نفخ الزجاج وإعادة تشكيله، والآن الحرفة تتجه للاندثار خاصة أنه لم يعد هناك من يرغب الانخراط بهذا العمل، فضلاً عن ارتفاع تكاليف الإنتاج ما أدى إلى ارتفاع تكاليف القطع الزجاجية اليدوية وصعوبة العمل وقلة المردود المادي.
يشرح أبو نعيم عن أهمية الحرف اليدوية لكونها رافعة مهمة للاقتصاد الوطني وخاصة الحرف الدمشقية ذات السمعة( الذهب) في العالم والتي تنافس بجودتها ودقة تصنيعها كل الزجاج المشغول عالمياً حيث تمتاز أنها يدوية بالخالص من ألفها إلى يا ئها، ويستذكر كيف كان السياح يتهافتون على الخان بحثاً عن زجاج دمشق المشغول بمنتهى الدقة اليدوية .
لم يسجل دخول للنساء إلى هذه الحرفة سوى سيدة واحدة فقط هي أم نعيم التي ساندت زوجها في حرفته، لكن تراجع حالتها الصحية دفعها للتوقف بعد أن شارفت على تعلم مراحل العمل كافة .
لم تعد هناك بضاعة مكدسة في الورشة، لكن القطع الموجودة تنافس بعضها البعض جمالاً ورشاقة حيث بقي سحرها الأخاذ طاغياً رغم تكدس الغبار عليها.