ملف «تشرين».. حرب تجويع بلا حدود… تفاصيل صادمة في ملف القمح السوري المسروق ..من البذار الفاسد إلى الحرق إلى سرقة ما تبقى من المحصول.. شواهد على حكاية قرصنة معلنة

تشرين – خاص:
مع بدء عمليات زراعة القمح في تشرين الثاني/نوفمبر/2021، فوجئ فلاحو محافظة الحسكة بنوبة كرم حاتمية لقوات الاحتلال الأميركي، من خلال قيام هذه القوات بتوزيع بذار قمح عليهم مجاناً.
الفلاحون استلموا بحسن نية ما جاد عليهم الاحتلال الأميركي من بذار، من دون أن يخطر ببالهم أن أميركا بجلالة قدرها، يمكن أن “تخدعهم” وتقدم لهم بذاراً “مدسوساً ومشكوكاً بسلامته، وغير صالح للزراعة”. وذلك لأن أميركا “العظمى” تغامر بذلك بسمعتها وتقامر بعظمتها.
وما إن وصل خبر هذه “المنحة الأميركية” من أحد الفلاحين الشرفاء إلى مديرية الزراعة واتحاد الفلاحين في المحافظة، مرفقة بعينة من البذار الموزّع، حتى ساورت الشكوك الجهات المعنية. ولاسيما أن المعلومات التي وصلت لتلك الجهات أكدت أن البذار الموزع “تركي المنشأ”، وقامت قوات الاحتلال الأميركي بتوزيعه في المناطق الواقعة تحت سيطرة ق*س*د حصراً. أي أن من يقف خلف هذا “الكرم” هو الاحتلالان الأميركي والتركي، الاحتلال التركي “يمنح”، والاحتلال الأميركي “يوزع”. وبما أن “المانح والموزع” يناصبان سورية العداء، كان لابدّ أن تساور الجهات المعنية في محافظة الحسكة الشكوك. وقطعاً لدابر هذه الشكوك كان من البدهي أن يتم التدقيق بأمر هذه المنحة وفحصها والتأكد منها، ومن مدى صلاحيتها للزراعة في الحقول السورية.
وبناء على ذلك، سارعت مديرية الزراعة إلى تقسيم العينة إلى قسمين، القسم الأول تم إرساله إلى كلية الهندسة الزراعية في الحسكة، والقسم الثاني إلى وزارة الزراعة في دمشق، وذلك من أجل تحليل قسمي العينة في مخابرهما. وموافاة المديرية بالنتائج، بأقصى سرعة، قبل أن يقوم الفلاحون بزراعة “البذار الأميركي” وتقع الفأس في الرأس.

نتائج “كارثية”

ويخبرنا مدير الزراعة في الحسكة المهندس علي الخلوف الجاسم أن نتائج التحليل لتلك العينة من “البذار الأميركي” كانت كارثية، بكل ما في هذه الكلمة من معنى.

الجاسم: أميركا وزعت على فلاحي الحسكة بذاراً فاسداً لتدمير زراعة القمح

فقد أفادت كلية الهندسة الزراعية في تقريرها، بأن العينة التي تم تحليلها في مخابرها يبلغ وزنها 400 غرام من البذار الموزع من الاحتلال الأميركي، تحتوي على إصابات بنماتودا ثآليل القمح ومرض التفحم ووجود شعر أبيض وأسود وأعشاب غريبة (زيوان وشيلم) وحبوب مكسورة الأمر الذي يُبيّن أن نسبة الإنبات لهذه العينة لا تتجاوز 83% في ظروف المختبر، وستنخفض هذه النسبة في الحقل.
أما وزارة الزراعة فأكدت في تقريرها – يتابع الجاسم – أن التحاليل المخبرية التي تم إجراؤها على عينة من بذار القمح الموزع من الاحتلال الأميركي، أثبتت أن هذا البذار غير صالح للزراعة ليس في محافظة الحسكة فحسب، وإنما في جميع الأراضي الزراعية السورية. وذلك بسبب احتواء البذار الموزع على الإصابة بثآليل القمح وشيوع ترافقها مع مرض عفن السنابل البكتيري الناتج عن البكتيريا Clavibacter trtitici والمعروف كمرض حجري مدمّر لحقول القمح عند الإصابة به، ما يسبب تلوث التربة والتأثير بشكل كبير في إنتاج المحصول، إضافة إلى انخفاض نسبة إنبات الحبوب إلى 83.84% تحت ظروف المخبر، وقد تنخفض إلى نسبة أكبر في الحقل، إلى جانب وجود نسبة حبوب مكسورة تبلغ 3.75% ما يزيد من الحاجة إلى معدل بذار أعلى لتعويض الفاقد في نسبة الإنبات والحبوب المكسورة، وبالتالي زيادة تلوث التربة وزيادة ضرر الإصابة بنماتودا ثآليل القمح والمرض البكتيري المرافق لها، والتي تبين وجودها في البذار الموزع.
وبينت الوزارة أن بذار القمح تركي المنشأ، والذي وزعته قوات الاحتلال الأميركي، عبر ما تسمى “هيئة الوكالة الأميركية الدولية” على شكل هبة مجانية للفلاحين في عدة مناطق في ريف القامشلي شمال الحسكة لا يصلح للزراعة نهائياً، بسبب ارتفاع نسبة النيماتودا فيه، والتي وصلت إلى 40 بالمئة. وقد قامت وزارة الزراعة منذ سنوات بمنع توزيع أي بذار قمح يحتوي على النماتودا مهما كانت نسبة الإصابة قليلة ومحدودة فيه، حفاظاً على الإنتاج الزراعي والاقتصاد الوطني.

لماذا؟
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هو لماذا أقدمت كل من تركيا وأميركا على هذه الخطوة “الخسيسة” لضرب الاقتصاد السوري، وزعزعة الأمن الغذائي لشعب هذا البلد، من خلال تدمير زراعة القمح التي تعد الركن الأساس في غذاء السوريين؟.
لاشك في أن القيادة الأميركية تدرك أن القمح يشكل السلعة الأهم بالنسبة للسوريين، لأنه يمد البلاد بالطحين بمقدار 800 ألف طن. يجيب الجاسم ويضيف: فالقمح كان يشكل 12% من كامل قيمة الإنتاج الزراعي السوري قبل المؤامرة. واحتل 49% من المساحات المزروعة، إذ أنتجت سورية في عام 2010 ما يقرب من 4.1 ملايين طن من القمح، تم تسليم 3 ملايين طن منها للحكومة. قبل أن يتراجع إلى أقل من مليون طن فقط في سنوات المؤامرة، وهو الأسوأ في تاريخ الزراعة السورية.

الجاسم: ثم أحرقت حقول القمح بالبالونات الحرارية

ولهذا جنّدت القيادة الأميركية العديد من خبرائها لدراسة القمح السوري دراسة معمقة من مختلف الجوانب، لكونه يعد ظاهرة لافتة للنظر، لا نظير لها حتى في أميركا نفسها. فقد بذل الخبراء الأميركيون محاولات كثيرة لإنقاذ المحاصيل الزراعية الأميركية، وخاصة القمح، من المشكلات التي يعانيها، إلّا أنهم عجزوا عن الوصول إلى نتيجة.
وتنفيذاً لهذا التكليف، يكشف الجاسم النقاب عن دراسات كثيرة قام بها خبراء أميركيون؛ وعلى مدى سنوات، للقمح السوري، بسرية تامة. بغية معرفة الخصائص والميزات التي يتمتع بها، وخاصة تحمله للظروف الجوية القاسية كارتفاع درجات الحرارة وتوابعها.
ومن خلال تلك الدراسات الحقلية والفنية والمخبرية، اكتشف الباحثون في جامعة كنساس الأميركية أن بذور القمح السورية المسماة “Aegilops tauschii” أو “الدوسر”، هي الوحيدة التي لم تصبها الآفات والحشرات، من بين 20 ألف نوع آخر من النباتات تم تدميرها بسبب تلك الآفات، وذلك في تجربة أجريت بحقل مغطى بولاية كنساس الأميركية.
وحسب موقع منظمة أورجانك كونسيومر الأميركية، تم الحصول على بذور القمح السوري من منطقة تقع على بعد 25 كم غرب مدينة حلب.
ومن هنا يؤكد الجاسم أن القيادة الأميركية التي اكتشفت الميزات الجيدة والخصائص الفريدة للقمح السوري، قررت تدميره، هكذا بكل بساطة.
وبناء على ذلك يعدّ قيام الاحتلال الأميركي بتوزيع بذار قمح مصاب وغير صالح للزراعة، هو شكل جديد من أشكال الحرب التي تشن على سورية منذ سنوات. وذلك لأن “البذار الأميركي – التركي” في غاية الخطورة، لكونه يؤدي إلى تدني المردود الإنتاجي لوحدة المساحة موسماً إثر آخر من جهة، وتوطين الآفات والأمراض الفتاكة في الأرض من جهة ثانية.
وبهذا تحقق الولايات المتحدة الأميركية الهدف المنشود من وراء ذلك، وهو تحويل سورية من بلد مكتفية ذاتياً إلى بلد مستوردة للقمح.

بداية الجريمة

وليس هذا فحسب، وإنما واصلت قوات الاحتلال الأميركي عمليات النهب المنظم للثروات السورية، وخاصة النفط والقمح، ويقول الجاسم إنّ قوافل الشاحنات المحملة بالقمح السوري المسروق، تخرج يومياً من صوامع وصويمعات القمح في ريف محافظة الحسكة، وخاصة صومعة تل علو وصومعة الطويبة ومن مستودعات شركة نما للإنتاج الزراعي.
مبيناً أن قصة نهب وسرقة القمح السوري بدأت في موسم 2020/2019 حين قام مسلحو ق*س*د، وبأوامر أميركية مباشرة، بمنع الفلاحين والمزارعين السوريين في المناطق التي تسيطر عليها في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، من تسويق وشحن أقماحهم إلى مراكز الحكومة السورية التي افتتحتها خلال ذلك الموسم، ضمن المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش العربي السوري في مدينة القامشلي (مركزي الثروة الحيوانية وجرمز)، وفي عدد من المطاحن الخاصة التي تعاقدت معها المؤسسة السورية للحبوب الحكومية لعمليات الطحن.
ويشرح الجاسم أنه بعد قيام الحكومة السورية برفع سعر استلام القمح من الفلاحين إلى نحو الضعف (من 225 إلى 400 ليرة للكغ)، بما يزيد على سعر الشراء لدى ق*س*د بحدود 85 ليرة، شعر الأميركيون بالخوف من وصول القمح إلى الصوامع السورية، فطلبوا من ق*س*د المرتبطة بهم شراء القمح بالقوة من الفلاحين، وبسعر لا يتجاوز وسطياً 335 ل.س للكغ الواحد رغم تحديده بسعر 17 سنتاً أميركياً.
مشيراً إلى أنه نتيجة هذه الإجراءات التعسفية، نجح الاحتلال الأميركي و ق*س*د بالاستحواذ على كميات تصل إلى 800 ألف طن قمح من فلاحي المنطقة الشرقية، في حين لم تتجاوز كميات الأقماح التي تم شراؤها في مراكز الحكومة السورية 360 ألف طن.
ويقول إنّ الاحتلال الأميركي يستحوذ على معظم القمح السوري المسروق، والبقية تقوم ما تسمى “الإدارة الذاتية” ببيعه إلى تجار في شمال العراق، حارمة الأهالي من رغيف الخبز، وذلك لأن كميات القمح الموجودة لدى الحكومة السورية، في ظل المؤامرة الكونية على البلاد، لا تكفي حاجة الأهالي.

الحرق أولاً

ويتابع الجاسم إن سرقة القمح والنفط من سورية، ليست جديدة على أميركا، حيث سبق لها سرقة المحاصيل السورية والانتقام من السوريين بقيام طائرات تابعة للجيش الأميركي، بإحراق آلاف الهكتارات من حقول القمح والشعير عبر رميها (بالونات حرارية) فوق الأراضي الزراعية. وفي تقرير لموقع (إنترناشونال بزنس تايمز) الإخباري الأميركي، أفاد بأن مجموع المساحات التي أحرقتها القوات الأميركية في يوم واحد تجاوز الـ 3000 هكتار. توزعت على أرياف حلب والرقة والحسكة. في خرقٍ فاضح للقانون الدولي، وجريمة إتلاف متعمد للإضرار بقوت المواطنين، وتدمير الأمن الغذائي السوري، في إطار حرب الحصار الاقتصادي وسياسة التجويع التي تمارسها أميركا ضد الشعب السوري ودولته. بهدف تطويعه سياسياً للإرادة الأميركية، بعد أن فشل العدوان المباشر في تحقيق أهدافه.

إمعان في “حرب التجويع”

أما عضو المكتب التنفيذي لمجلس المحافظة مسؤول قطاع الزراعة والري، المهندس فواز الدبس، فأخبرنا أن محافظة الحسكة كانت تنتج لوحدها من القمح قبل2011، مليون طن ونيّفاً سنوياً. وهذه الكمية تكفي لسد ثلث حاجة سورية السنوية من القمح، والبالغة نحو 2.5 مليون طن.

الجاسم: ومازالت القوافل الأميركية تنقل القمح السوري المسروق إلى شمال العراق

مشدداً على أن الولايات المتحدة الأميركية تسرق كل إنتاج منطقتي الجزيرة والفرات من القمح، إمعاناً في “حرب التجويع” التي تنتهجها ضد الشعب السوري، بمساعدة المي*ليش*يات المرتبطة بها.
يضاف إلى ذلك قيام المحتل الأميركي ومي*ليش*ياته بتخريب المؤسسات الزراعية، ولاسيما المؤسسة العامة لإكثار البذار. بهدف منع هذه المؤسسة العريقة من تزويد الفلاحين بأنواع جيدة من البذار، ذي المردود العالي والملائم لمواصفات التربة التي يُزرَع فيها. ويقوم الاحتلال الأميركي باستبدال الأنواع المكفولة والآمنة من البذار، بأنواع مجهولة الهوية والمصدر، من أجل إنتاج أقماح بجودة متدنية وذات مواصفات غير صالحة للاستهلاك البشري، وذلك للحيلولة دون استخدامها لتأمين رغيف الخبز للشعب السوري.
وأوضح الدبس أن الكميات المسروقة من القمح والنفط في محافظة الحسكة من قبل قوات الاحتلال الأميركي يتم تهريبها إلى شمال العراق، عبر معابر حدودية غير شرعية على الحدود السورية – العراقية، كمعبر الوليد القريب من بلدة اليعربية، ومعبر المحمودية الواقع جنوب معبر الوليد بنحو 1 كم، ومعبر التونسية المسمى معبر سيمالكا.
الأمر الذي يؤكد أن أميركا ومرتزقتها مستمران بسرقة الثروات الطبيعية للشعب السوري من النفط والقمح، وتهريبها عبر المنافذ غير الشرعية باتجاه شمال العراق، ومنها ما يتم تمريره إلى مناطق سيطرة تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي، في إدلب وشمال سورية، عبر الأراضي التركية.

خسائر بالمليارات

ويؤكد الدبس أن إنتاج سورية من النفط والقمح، كان يكفي لسد حاجة الشعب السوري من هذه المنتجات الأساسية لمعيشته واستمراره بالحياة، ويغني الدولة السورية عن استيرادها بالعملة الصعبة، التي كان من الممكن أن توظَّف في مجالات أخرى تعود بالنفع على الشعب السوري.
لا بل ثمة فائض من هذه المنتجات، يدعم الخزينة السورية بكمية لا بأس بها من العملة الصعبة، عن طريق تصدير ذلك الفائض.
ومن خلال توظيف الموارد الوطنية، أصبحت سورية بلا ديون خارجية.
وإدراكاً من الولايات المتحدة الأميركية لهذه الحالة المتميزة،
يقول الدبس ان قوات الاحتلال الأميركي والميليشيات المرتبطة بها، عملتا على النهب المنظم للنفط والقمح وكل الموارد الأساسية الأخرى، والثروات الوطنية للشعب السوري.
مبيناً أن وزارة الخارجية السورية عدّت الاتفاق بين الاحتلال الأميركي و ق*س*د بشأن سرقة النفط السوري (سرقة موصوفة متكاملة الأركان) وإدراجه في إطار (الاعتداء على السيادة السورية).
وقدرت وزارة الخارجية في بيان رسمي صدر في كانون الأول/ من العام الماضي 2022، خسائر سورية الناجمة عن العمليات العسكرية الأميركية على أراضيها بنحو 111.9 مليار دولار.

الدبس: الثروات السورية كانت تلبي حاجة السوريين والفائض منها يُصَدّر

وقدرت الوزارة الخسائر المباشرة بـ 25.9 مليار دولار، تتكون من 19.8 مليار دولار من جريمة سرقة النفط من قبل الأميركيين، و3.2 مليارات دولار أضرار لحقت بمنشآت الدولة، و2.9 مليار دولار أضرار لحقت بمنشآت النفط والغاز.
في حين قدرت الوزارة الخسائر غير المباشرة بنحو 86 مليار دولار.

سؤال مشروع

وهنا يبرز أمامنا سؤال مشروع: لماذا تُقدِم أعظم دولة في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، على ارتكاب جريمة سرقة نفط السوريين وقمحهم، في وضح النهار، وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع؟.
وإذا كنا لا نرى أن الولايات المتحدة الأميركية ستتخلى ببساطة عن حقول النفط والقمح السورية، ليس لحاجتها للنفط والقمح، بل لأنها تريد أن تجعل منهما ورقة ضغط على الدولة السورية، نظراً لموقع سورية الإستراتيجي أولاً، ولمخزونها الكبير من النفط والغاز والقمح ثانياً، ولثوابتها الوطنية ونهجها المقاوم ثالثاً.

فإننا سنحاول الإجابة عن ذلك السؤال المشروع بالوقائع والأدلة والبراهين الدامغة التي لا يرقى إليها أدنى شك، في الجزء الثالث من هذا الملف.

اقرأ أيضاً:

ملف «تشرين».. لصوص يستولون ولصوص يسرقون… بالأرقام والوقائع “تشرين” تكشف تفاصيل أبشع “حرب تجويع” تشنها أميركا و ميليشياتها على السوريين

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار