ملف «تشرين».. القارة السمراء في رحاب التغيير.. «إفريقيا الروسية».. أهلاً بالعالم الجديد
تشرين – رشا عيسى:
ليست مجرد شراكات عابرة ما يجري بين موسكو والقارة السمراء، بل ثمة محفزات عدة لتطوير العلاقات الروسية – الإفريقية استناداً لتاريخ طويل من التعاون يجمع الطرفين، فضلاً عما يجري من متغيرات على الساحة الدولية جعلت إفريقيا تعود لصداقتها القديمة بعد عقود وعقود من التسلط الغربي وخاصة الأوروبي على مقدراتها وسياساتها، والكثير من سياسات الاضطهاد ضد الأفارقة وقارتهم الثرية.
اليوم تبتعد إفريقيا بخطىً سريعة عن الغرب الذي استغل ثرواتها ومواردها كافة، وتتجه بالسرعة ذاتها بل ربما أكثر نحو شركاء مستعدين لمراعاة مصالحها ومصالحهم على حدّ سواء، وتظهر موسكو شريكاً يرتقي قدماً لدرجة الحليف بالارتكاز على تاريخ قديم يجمع الطرفين، وكانت الثقة عنواناً مهماً فيه، حتى غدت روسيا الشريك المُفضل، والذي يحظى بقبول أكثر من الغرب بالنسبة للعديد من دول إفريقيا.
وجاءت قمة سان بطرسبورغ الروسية – الإفريقية التي عقدت نهاية شهر تموز الفائت لتوضح الرغبة الإفريقية بتعميق خط الشراكة مع الجانب الروسي في وقت يشهد فيه العالم رفضاً للقطب الواحد واتجاهاً متسارعاً لتحقيق عالم متعدد الأقطاب لم يعد فيه المركز أميركياً أو أوروبياً، بل بدأ الدور القيادي لدول تتقدم نحو المزيد من العلاقات القوية مع الجانب الإفريقي.
د. الجاموس: التحولات في إفريقيا مرتبطة بالاقتصاد السياسي، الدول الإفريقية تسعى
باتجاه تحسين وضعها المعيشي وتبحث عن شريك دولي موثوق وعلى قاعدة المصالح المتبادلة
اليوم وكأن يقظة إفريقية حدثت أو تحدث الآن، ويمكن وصفها بالمتأخرة لأسباب خارجة عن قدرة القارة التي بدأت تبحث عن تحقيق مصالحها، وعن العدالة بالحفاظ على ثرواتها، ولكنها بحاجة لسند وشريك يمكنها من الابتعاد عن جزء من الغرب الذي يسيطر على مقدراتها بطريقة تخلو من أي وجه من أوجه العدالة.
تغيرات مرتبطة بالاقتصاد السياسي
الباحث الاقتصادي الدكتور مجدي الجاموس رأى في حديثه لـ«تشرين» أن التغيرات الجديدة على الساحة الإفريقية يمكن القول إنها تغيرات مرتبطة بالاقتصاد السياسي، وبالنتيجة فإن العلاقة بين روسيا والدول الإفريقية هي علاقة مصالح متبادلة.
والجواب حول لماذا هي مصالح متبادلة؟.. لأنه ونتيجة التغيرات التي حدثت مع روسيا على الساحة الدولية ووقوفها إلى جانب الدول الحليفة والصديقة لها إضافة إلى الحرب مع أوكرانيا ووقوفها بندية وقوة كبيرة أمام حلف شمال الأطلسي «ناتو» فضلاً عن المكاسب المحققة أعطت مثالاً واقعياً وحقيقياً للعالم بوجود البديل عن القطب الأوحد الذي تترأسه الولايات المتحدة، واليوم أثبتت روسيا مكانتها وأنها بديل وملجأ للدول التي تحتاج المساعدة مع مجموعة بلدان تخطو قدماً نحو التعددية السياسية والاقتصادية.
تحرك لإيجاد البديل
وبيّن الجاموس أن الدول الإفريقية تتحرك لإيجاد البديل بغية تحسين وضعها المعيشي علماً أن الدول الافريقية تعد خزان الثروات العالمي وأيضاً خزاناً طبيعياً وبشرياً في الوقت ذاته.
د. خلاصي: موجة التغيرات في إفريقيا ستصب في مصلحة دولها لتنال حريتها
الحقيقية بمساندة شركاء حقيقيين مثل روسيا والصين
إفريقيا قارة نفطية، ونيجيريا تصنف رابع دولة منتجة للنفط عالمياً وأيضاً بوجود الماس والذهب والنحاس والكثير من الثروات الباطنية، أضف إلى ذلك قوة العامل البشري، حيث يشكل سكان إفريقيا 60% من سكان الأرض، وهم من العنصر الشاب والذين لم تتجاوز أعمارهم 28 عاماً، بينما أوروبا هي العجوز الهرمة، وبالتالي استماتت الدول الأوروبية للبقاء في إفريقيا بغية إبقاء السيطرة على الخزان البشري وخزان الثروات التي تكتنزها .
وأكد الجاموس أنه على مدى عقود من تواجد الأوروبيين على الأرض الإفريقية لم يساعدوا على تنمية القارة وتحسين الوضع المعيشي والاقتصادي لبلدانها ولم يساعدوا شعوبها على استثمار الثروات والاستفادة منها، حتى أصبح التواجد الأوروبي ضاغطاً على إفريقيا التي بدأت دولها تبحث عن البديل الدولي لاستثمار ثرواتها وتحسين اقتصادها ووضعها المعيشي.
تجربة مهمة
ووجد الجاموس أن تجربة دولة جنوب إفريقيا كأحد أركان تحالف «بريكس» تعد تجربة مهمة لها ولأقرانها الأفارقة حيث تخوض تجربة غنية إثر انضمامها إلى التحالف الذي يضم «البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا»، مشيراً إلى أن «بريكس» أحد أهم التكتلات الاقتصادية في العالم، نظراً لأرقام النمو التي تحققها دول هذا التكتل مع توالي السنوات، ما جعلها محط اهتمام عديد من الدول الأخرى التي ما فتئت ترغب في الانضمام إلى التكتل ومنها الدول الإفريقية التي رأت عن كثب تجربة جنوب إفريقيا، وكيف أعطى الانضمام لـ«بريكس» صدىً ومردوداتٍ اقتصادية كبيرة جداً لجنوب إفريقيا، وكيف بات الانضمام لهذا المحور يحقق النفع للدول الإفريقية بعيداً عن الأوروبيين والأمريكيين.
وبالنسبة لروسيا أشار الجاموس إلى أنها أثبتت قوتها العسكرية وقوة تواجدها السياسي على المستوى العالمي، وأهمية دورها بالعديد من النقاط في العالم، وإفريقيا كقارة جزء مهم من هذا العالم، ولكن روسيا لا تمتلك فكراً استعمارياً على غرار الأميركيين أو الأوروبيين حيث تمتلك الولايات المتحدة 835 قاعدة عسكرية حول العالم بينما لدى روسيا 35 قاعدة، وهذه القواعد الأميركية دليل على الهيمنة واستنزاف الثروات الطبيعية، أما روسيا فلم تكن في هذا الوارد وكانت تسعى لحماية حلفائها بطريقة شفافة، وتحاول الاستفادة من التجارب وخاصة بعد الحرب في أوكرانيا، ورأت أن تتجه لدول ترغب بالمساعدة من دون أن يكون هناك مواربة في أن روسيا تحتاج أيضاً لتحسين اقتصادها، كما تسعى لكسب أصدقاء جدد وتوفير مناخات استثمارية لشركاتها.
ويضيف الدكتور الجاموس أن الدول الإفريقية دول فقيرة غير مستثمرة ولا تزال بمرحلة النشوء، وبالتالي كل ثرواتها الطبيعية غير مستثمرة ومساعدتها يحقق مصالح مشتركة للطرفين، المستقبل لروسيا الإفريقية والتوجه نحو الحلف الروسي- الصيني اللذين أثبتا جدارة محققة وفقاً للجاموس.
موجة التغيرات
رئيس الأمانة السورية للثوابت الوطنية الدكتور حسام الدين خلاصي رأى أن روسيا ليست الوحيدة التي تتطلع نحو بعض أجزاء مهمة من القارة الإفريقية فهناك الصين وإيران والهند وبعض دول أمريكا اللاتينية هذا من حيث المبدأ، فالقارة الإفريقية والتي تم استعبادها لفترات طويلة من قبل الغزو الهمجي الأوروبي القديم ومن قبل الأنماط الجديدة من الاستعمار الاقتصادي الذي ينهب ثرواتها، هذه القارة ضاقت ذرعاً بهذا النهب المنظم على يد الدول الأوروبية بينما هي تعيش في الفقر والاضطرابات في ظل حكومات عميلة، لذلك روسيا وخلال أكثر من عقدين من الزمن وجدت فرصة لوجستية مهمة لتشجيع الفكر الوطني ومد يد العون للقيادات الوطنية والمحلية الإفريقية لتنتفض في وجه دول الاستعمار وفي مقدمتها وأبشعها فرنسا.
الباحثة فيوض: ما يحدث في إفريقيا اليوم هو صراع بين «صحوة» الشعوب التواقة للعيش
الكريم وبين الغرب الذي يسعى بكل السبل لإبقائها في دائرة الاستعباد لنهب خيراتها
وبالتالي ستمر هذه الموجة من التغييرات لصالح استقلال أغلب هذه الدول لتنال حريتها الحقيقية بمساندة شركاء حقيقيين مثل روسيا والصين أي صيغة شريك وليس مستعمراً.
صيغة اقتصادية جديدة
وعن الخريطة الاقتصادية العالمية التي يتشكل وفقها نظام اقتصادي عالمي جديد سيقود إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب أكد خلاصي لـ «تشرين» أنه من الطبيعي أن ينهض العالم بصيغته الجديدة على أسس اقتصادية متينة تضمن للشركاء جميعاً حقوقهم على مبدأ من التكامل وتبادل المنفعة، فالعالم الجديد متعدد الأقطاب لن يقوم على أسس عسكرية أو سياسية فقط إذ لا بد من شراكة اقتصادية حقيقية تعزز المفاهيم العسكرية والسياسية للعالم متعدد الأقطاب المنشود، من هنا يتم التصويب نحو القارة السمراء لتبادل المنفعة على أسس جديدة تضمن سيادة بلدانها وتتعاون مع الدول القوية الصاعدة.
وأوضح خلاصي أن تأجيج الحروب والنزاعات الداخلية هو السلاح الأقوى لدى هذه القوى الاستعمارية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وأغلب دول الاتحاد الأوربي لكي تحكم سيطرتها على الدول الإفريقية إضافة للضغط والحصار الاقتصادي، لكن هذه المرة الوضع يختلف فالنيجر أو غيرها الآن تحظى بدعم دول قوية مستعدة لمد هذه الدول بما تحتاجه اقتصادياً ولربما عسكرياً انطلاقاً واعتماداً على الإرادة الشعبية والوطنية التي تشكلت لرفض هذا الاستعمار وستساندها في المحافل الدولية أيضاً.
فتح الباب أمام الشراكة
وعند سؤاله هل ستكون قريباً «إفريقيا الروسية» حاضرة على الساحة الدولية وفقاً للتطورات الأخيرة في القارة السمراء؟ قال خلاصي: إن روسيا لا تتطلع إلى خلق أفريقيا الروسية على الإطلاق، لأنها أي روسيا موجودة أصلاً في تجمعات سياسية واقتصادية ترفض الهيمنة الأحادية وبالتالي لربما روسيا كرأس حربة متقدم لهذه التجمعات تفتح الباب أمام حركات الاستقلال وأمام العمل بالشراكة وعلى المدى البعيد القضاء على هيمنة القطب الأمريكي الأوحد، لأن القارة الأوروبية العجوز حكمت على نفسها بالتبعية والعجز والوصول للإفلاس.
تجليات الصراع المحتدم
الباحثة المهندسة مريم جودت فيوض ركزت على أن الانقلاب العسكري في النيجر هو أحد تجليات الصراع المحتدم بين شعوب إفريقيا والغرب ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية التي تحاول جاهدة وبكل السبل وقف وكبح رغبة الشعوب المستضعفة والمنهوبة مقدراتها ومواردها من تحقيق أبسط أحلامها في العيش الكريم وهذا ما نراه واضحاً وجلياً في النيجر البلد الغني بالموارد الطبيعية والمعادن الثمينة، ورغم ذلك شعبه يكافح لنيل لقمة العيش فها هي فرنسا المستعمرة التي ما تغيرت سياساتها الاستغلالية والاستعمارية منذ عقود طويلة من الزمن تسرق أكثر من 30% من اليورانيوم لتشغيل مفاعلاتها النووية لتؤمن لشعبها الكهرباء بينما أكثر من 90% من شعب النيجر يعيش من دون كهرباء على الإطلاق علاوةً على إبقاء سياسة التجهيل والفقر المتعمد لشعب نيجيريا لتشغل حتى أطفالهم بالمناجم بدلاً من ذهابهم إلى المدارس أسوة بالأطفال الفرنسيين ولكن العقل الغربي الاستعماري الذي يعيش على استغلال مقدرات الشعوب والبلدان وسرقتها لم يتبدل رغم مرور كل هذا الزمن، الذي تغير فقط هو الأسلوب وهذا ما يفسر وبوضوح تام ما يحصل في النيجر، والذي وبكل بساطة صراع ما بين صحوة الشعوب التواقة للعيش الكريم مدعومة من قبل روسيا والصين، بينما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية لقمع ومنع ذلك وبكل الأساليب حتى لو اضطرت للتدخل العسكري عبر توابعها في المنطقة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) التي أعطت مهلة لقادة الانقلاب العسكري في النيجر للإفراج عن الرئيس محمد بازوم وإلّا سوف تتدخل عسكرياً، ولكن هل سينجح ذلك؟
إنَّ ما يحدث اليوم في النيجر وما حدث في العديد من المناطق ومنها منطقتنا هو صراع متعدد الأوجه منه الاقتصادي ومنه العسكري, وما نعيشه اليوم هو مخاض ولادة، قد تكون صعبة وعسيرة نحو عالم متعدد الأقطاب ولكن لا بدّ من النجاح بذلك تحقيقاً للكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية قدر الإمكان.
اقرأ أيضاً:
ملف «تشرين».. إفريقيا تُعيد ترتيب خريطة المصالح الدولية.. تشكيل جديد لعالم متعدد الأقطاب